الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      إبراهيم بن المهدي

                                                                                      الأمير الكبير أبو إسحاق ، الملقب بالمبارك ; إبراهيم ابن أمير المؤمنين محمد بن أبي جعفر ، الهاشمي العباسي الأسود .

                                                                                      ويعرف بالتنين للونه ، وضخامته .

                                                                                      كان فصيحا ، بليغا ، عالما ، أديبا ، شاعرا ، رأسا في فن الموسيقى . ويقال له : ابن شكلة ، وهي أمه .

                                                                                      حدث عن : المبارك بن فضالة ، وحماد الأبح .

                                                                                      روى عنه : ولده هبة الله ، وحميد بن فروة ، وأحمد بن الهيثم ، وغيرهم .

                                                                                      قال علي بن المغيرة الأثرم : حدثنا إبراهيم : أنه ولي إمرة دمشق أعواما لم يقطع فيها على أحد طريق ، وحدثت أن الآفة في قطع الطريق من دعامة [ ص: 558 ] ونعمان ويحيى بن أرميا اليهودي البلقاوي ، وأنهم لم يضعوا يدهم في يد عامل ، فكاتبتهم . فتاب دعامة ، وحلف النعمان بالأيمان أنه لا يؤذي مهما وليت ، وطلب ابن أرميا أمانا ليأتي ، ويناظر ، فأجبته .

                                                                                      فقدم شاب أشعر أمعر في أقبية ديباج ، ومنطقة ، وسيف محلى ، فدخل على الخضراء ، فسلم دون البساط ، فقلت : اصعد . قال : إن للبساط ذماما ، أخاف أن يلزمني جلوسي عليه ، وما أدري ما تسومني ، قلت : أسلم ، وأطع . قال : أما الطاعة فأرجو ، ولا سبيل إلى الإسلام ، فما عندك إن لم أسلم ؟ قلت : لا بد من جزية . قال : أعفني . قلت : كلا . قال : فأنا منصرف على أماني . فأذنت له ، وأمرتهم أن يسقوا فرسه ، فلما رأى ذلك ، دعا بدابة غلامه ، وترك فرسه ، وقال : لن آخذ شيئا ارتفق منكم ، فأحاربكم عليه . فاستحييت وطلبته ، فلما دخل ، قلت : الحمد لله ، ظفرت بك بلا عهد . قال : وكيف ؟ قلت : لأنك انصرفت من عندي ، وقد عدت ، قال : شرطك أن تصرفني إلى مأمني ، فإن كان دارك مأمني ، فلست بخائف ، وإن كان مأمني أرضي ، فردني . فجهدت به أن يؤدي جزية على أن أهبه في السنة ألفي دينار ، فأبى ، وذهب ، فأسعر الدنيا شرا ، وحمل مالا من مصر ، فتعرض له ، فكتب النعمان إلي ، فأمرته بمحاربته ، فسار النعمان ، ووافاه اليهودي في جماعته ، فسأله النعمان الانصراف ، فأبى ، وقال : بارزني ، وإن شئت برزت وحدي إليك وإلى جندك .

                                                                                      فقال النعمان : يا يحيى ، ويحك أنت حدث قد بليت بالعجب ، ولو كنت من أنفس قريش لما أمكنك معارة السلطان ، وهذا الأمير هو أخو الخليفة ، وأنا - وإن افترقنا في الدين - أحب أن لا يقتل على يدي فارس ، فإن كنت تحب السلامة ، فابرز إلي ، ولا يبتلى [ ص: 559 ] بنا غيرنا ، فبرز له العصر ، فما زالا في مبارزة إلى الليل ، فوقف كل منهما على فرسه متكئا على رمحه ، فنعس النعمان ، فطعنه اليهودي ، فيقع سنان رمحه في المنطقة ، فدارت ، وصار السنان يدور معها ، فاعتنقه النعمان ، وقال : أغدرا يا ابن اليهودية ؟ ! فقال : أومحارب ينام يا ابن الأمة ؟ ! فاتكأ عليه النعمان ، فسقط فوقه ، وكان النعمان ضخما ، فصار فوقه ، فذبح اليهودي ، وبعث إلي برأسه ، فاطمأنت البلاد ، ثم ولي بعدي عمي سليمان ، فانتهبه أهل دمشق ، وسبوا حرمه .

                                                                                      قال الخطيب : بويع إبراهيم بالخلافة زمن المأمون ، فحارب الحسن بن سهل ، فهزمه إبراهيم ، ثم أقبل لحربه حميد الطوسي ، فهزم جمع إبراهيم ، واختفى إبراهيم زمانا إلى أن ظفر به المأمون ، فعفا عنه .

                                                                                      وفيه يقول دعبل :

                                                                                      نفر ابن شكلة بالعراق وأهلها وهفا إليه كل أطلس مائق     إن كان إبراهيم مضطلعا بها
                                                                                      فلتصلحن من بعده لمخارق

                                                                                      وكان مخارق مغني وقته .

                                                                                      قال ابن ماكولا : ولد إبراهيم سنة 162 .

                                                                                      قلت : فعلى هذا لم يدرك مبارك بن فضالة .

                                                                                      قال الخطبي : بايعوه ببغداد ، ولقب بالمبارك - وقيل : المرضي - في [ ص: 560 ] أول سنة اثنتين ومائتين ، فغلب على الكوفة وبغداد والسواد ، فلما أشرف المأمون على العراق ، ضعف إبراهيم . قال : وركب إبراهيم بأبهة الخلافة إلى المصلى يوم النحر ، فصلى بالناس ، هو ينظر إلى عسكر المأمون ، وأطعم الناس بالقصر ، ثم استتر . قال : وظفر المأمون به سنة عشر ومائتين ، فعفا عنه ، وبقي عزيزا .

                                                                                      قال أبو محلم : قال إبراهيم بن المهدي حين أدخل على المأمون : ذنبي أعظم من عذر ، وعفوك أعظم من أن يتعاظمه ذنب .

                                                                                      وقيل : إنه لما اعتذر ، وكان ذلك بعد توثبه بثماني سنين ، عفا عنه ، وقال : هاهنا يا عم ، هاهنا يا عم .

                                                                                      وقد أخرج ابن عساكر في ترجمته حديثا لأحمد بن الهيثم ، حدثنا إبراهيم بن المهدي ، حدثنا حماد الأبح . والظاهر أن هذا المصيصي .

                                                                                      قال إبراهيم الحربي : نودي في سنة ثمان ومائتين أن أمير المؤمنين قد عفا عن عمه إبراهيم ، وكان إبراهيم حسن الوجه ، حسن الغناء ، حسن المجلس ، رأيته على حمار ، فقبل القواريري فخذه .

                                                                                      وعن منصور بن المهدي قال : كان أخي إبراهيم إذا تنحنح ، طرب من يسمعه ، فإذا غنى ، أصغت الوحوش حتى تضع رءوسها في حجره ، فإذا سكت ، هربت . وكان إذا غنى ، لم يبق أحد إلا ذهل .

                                                                                      [ ص: 561 ] وقال ابن الفضل بن الربيع : ما اجتمع أخ وأخت أحسن غناء من إبراهيم بن المهدي وأخته علية .

                                                                                      قال ثمامة بن أشرس : قال لي المأمون : قد عزمت على تقريع عمي ، فحضرت ، فجيء بإبراهيم مغلولا قد تهدل شعره على عينيه ، فسلم ، فقال المأمون : لا سلم الله عليك ، أكفرا بالنعمة ، وخروجا علي ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، إن القدرة تذهب الحفيظة ، ومن مد له في الاغترار ، هجمت به الأناة على التلف ، وقد رفعك الله فوق كل ذنب ، كما وضع كل ذي ذنب دونك ، فإن تعاقب ، فبحقك ، وإن تعف فبفضلك . قال : إن هذين - يعني ابنيه العباس والمعتصم - يشيران بقتلك . قال : أشارا عليك بما يشار به على مثلك في مثلي ، والملك عقيم ، ولكن تأبى لك أن تستجلب نصرا إلا من حيث عودك الله ، وأنا عمك ، والعم صنو الأب ، وبكى . فتغرغرت عينا المأمون ، وقال : خلوا عن عمي ، ثم أحضره ونادمه ، وما زال به حتى ضرب له بالعود .

                                                                                      وقيل : إن أحمد بن خالد الوزير ، قال : يا أمير المؤمنين ، إن قتلته ، فلك نظراء ، وإن عفوت ، لم يكن لك نظير .

                                                                                      توفي إبراهيم في رمضان سنة أربع وعشرين ومائتين .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية