الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
قلت: الكلام على هذا من وجوه:

أحدها: أن ما ذكره من المقالات بمبلغ علمه، وما عرفه من الرجال، وأقوالهم، وعامة ما عنده ما بلغه من أقوال طوائف من المتكلمين والمتفلسفة، مثل طوائف من المعتزلة والرافضة، وطوائف من متفلسفة الإسلام، وطوائف من متأخري أتباع الأشعري، ثم إنه جعل هؤلاء جمهور العقلاء المعتبرين.

وأما مقامات سائر أهل الملل من اليهود وأصنافهم والنصارى وأنواعهم فهو من أقل الناس معرفة بها، كما تدل عليه كتبه، مع أن أهل الكتاب أقرب إلى المسلمين من المشركين [ ص: 62 ] والصابئين، فله نوع خبرة بكثير من مقالات المشركين، الذين صنفوا على طريقتهم، في السحر وعبادة الكواكب والأصنام، وبكثير من مقالات الصابئين من المتفلسفة ونحوهم، ما ليس له من الخبرة بمقالات اليهود والنصارى، الذين هم أقرب إلى الهدى، وأبعد عن الضلال من المشركين والصابئين، ودينهم [ ص: 63 ] خير من دين المشركين، والمجوس، والصابئين، باتفاق المسلمين، ومن المعلوم أن هذه المسألة هي من أعظم مسائل أصول الدين، التي يتكلم فيها عامة طوائف بني آدم، فمن لم يكن له خبرة بمقالات بني آدم، كيف يحكم على جمهور العقلاء المعتبرين؟ وهو لم يعرف من مقالات عقلاء بني آدم إلا مقالات طوائف قليلة بالنسبة إلى هؤلاء، فأما أئمة الإسلام من الصحابة والتابعين وتابعيهم، فلا خبرة له ولا أمثاله بمقالاتهم في هذا الباب، كما تشهد به مصنفاته، ومصنفات أمثاله، وكذلك لا خبرة له بمقالات أئمة الفقهاء، وأئمة أهل الحديث والتصوف، وكذلك لا خبرة له بمقالات طوائف من متقدمي أهل الكلام ومتأخريهم، من المرجئة [ ص: 64 ] والشيعة وغيرهم، ممن قد حكى أقوالهم طوائف «كالأشعري» وغيره، فإن كتبه تدل على أنه لم يعرف مقالات [ ص: 65 ] أولئك، بل لا خبرة له أيضا بحقائق مقالات أئمة أصحابه «كأبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب» و «كأبي العباس القلانسي» وأمثالهم، بل لا خبرة له بحقائق مقالات «الأشعري» التي ذكرها في نفس كتبه، ولهذا لا ينقل شيئا من كلام «الأشعري» نفسه من كتبه «كالموجز» و «المقالات» و «الإبانة» و «اللمع» وغير ذلك، بل كثير من مقالات أئمة الأشعرية في هذا الباب وغيره، من مسائل الصفات، وفي مسائل القدر وغير ذلك، لم يكن يخبرها كما تدل عليه مصنفاته، وهو أيضا إنما يخبر من مقالات غير الإسلاميين، ما يخبره من مقالات الفلاسفة [ ص: 66 ] المشائين ونحوهم، ممن توجد مقالته في كتب ابن سينا، وأمثاله (من الدهرية، والثنوية، والمجوس وغيرهم، أو يخبر [ ص: 67 ] ما يجده في كتب أبي الحسين وأبي المعالي، ونحوهما من الإسلاميين، وأما سائر مقالات الفلاسفة الأوائل والأواخر فلا يخبرها، وهذا تفريط) في العلم والصدق في القول، والاطلاع على أقوال أهل الأرض في مقالاتهم ودياناتهم.

فيقال له: قولك إن جمهور العقلاء اتفقوا على أنه ليس بمتحيز ولا مختص بشيء من الجهات، وأنه تعالى غير حال في العالم ولا مباين عنه في شيء من الجهات، وتصورك بذلك أنه ليس على العرش، ولا فوق العالم ليس بصحيح، إذا أراد بالعقلاء المعتبرين من يستحق هذا الاسم، وذلك أن هذا القول لا يعرف عن أحد من أنبياء الله ورسله، وهم أكمل الخلق وأفضلهم عقلا وعلما، فلا يوجد في كتب الله المنزلة عليهم، ولا في شيء من الأثارة المأثورة عنهم، لا عن خاتمهم ولا عن أنبياء بني إسرائيل [ ص: 68 ] ولا عن غيرهم، بل الموجود عن جميع الأنبياء ما يخالف هذا القول، وهو في ذلك إما نص وإما ظاهر، وأنت تسلم أن هذا القول لا يؤثر عن الأنبياء، وإنما يستنبط من أمور سنتكلم عليها إن شاء الله، وهذا القول أيضا لا يؤثر عن أحد من أئمة الإسلام في القرون الفاضلة، التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» ولا قاله أحد من أئمة المسلمين، الذي لهم لسان صدق في أصناف الأمة، الذين اتخذوهم أئمة في العلم والدين، لا من أئمة العلم والمقال، ولا من مشايخ العبادة والحال، ولا هو قول عوام المؤمنين الباقين على فطرتهم، ولا يعرف هذا القول إلا عمن هو مجروح بنقص العقل والدين، معروف بكثرة [ ص: 69 ] التناقض والتهافت في مقاله، ولهذا يشهدون على أنفسهم بالحيرة، ويرجعون عما يعتقدونه إلى دين العجائز، ولا يعرف فيمن قال هذا القول، إلا من يشهد عليه بتوحشه، بأنه يجحد بعض العلوم الضرورية العقلية، وهذا موجود في مناظرة بعضهم، دع كون القائلين بمثل هذا القول، ليس فيهم إلا من له في الإسلام مقالة، نسب لأجلها إلى ردة أو نفاق، أو جهل أو تقليد، وإن كانوا قد تابوا من ذلك، وهذا القدر معروف عند أهل النظر، واعتبر ذلك بما ذكره «أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب» الذي هو إمام المتكلمين الصفاتية، وهو الذي سلك سبيله وائتم به «أبو الحسن الأشعري» و «أبو العباس القلانسي» ونحوهم من المتكلمة أهل الإثبات الصفاتية.

التالي السابق


الخدمات العلمية