الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب : في كراهة مناجاة الاثنين دون الثالث حال الرفقة .

( و ) يكره كراهة تنزيه إذا كان هناك جمع ( أن يتناجى ) من المناجاة وهي المسارة ، يقال ناجاه مناجاة ساره وانتجاه خصه بمناجاته كما في القاموس وقال في النهاية : المناجي هو المخاطب للإنسان والمحدث له يقال ناجاه يناجيه مناجاة فهو مناج ، والنجي فعيل منه ، وقد تناجينا مناجاة وانتجاء ، ومنه حديث { لا يتناجى اثنان دون الثالث } وفي رواية { لا يتناجى اثنان دون صاحبهما } أي لا يتساران منفردين عنه ، لأن ذلك يسوءه .

( الجمع ) فاعل يتناجى والمراد به اثنان فأكثر ( ما ) زائدة ( دون ) إنسان واحد ( مفرد ) لما أخرج البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى يختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه } وفي رواية { أجل إن ذلك يحزنه } بإسقاط من ، وهي رواية البخاري في الصحيح . وفي الأدب المفرد له بإسناد الصحيح بزيادة من . قال الخطابي : نطقوا بها اللفظ بإسقاط من ذكر له شاهدا ويجوز كسر همزة أن والمشهور فتحها . انتهى .

قال الخطابي إنما يحزنه لأجل معنيين أحدهما أنه ربما يتوهم أن نجواهما لتبييت رأي أو تدسيس غائلة له ، والثاني من أجل الاختصاص بالكرامة وهو يحزن صاحبه .

وأخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يحل لثلاثة يكونون بأرض فلاة يتناجى اثنان دون الثالث } .

قال في الآداب الكبرى : والنهي عام وفاقا للمالكية والشافعية . وخصه بعض العلماء بالسفر . وزعم بعضهم أنه منسوخ وأنه كان في أول الإسلام والله أعلم [ ص: 341 ]

( تنبيهات ) :

( الأول ) : ظاهر هذا الحديث الحرمة لا الكراهة ، فإنه متى انتفى الحل خلفه الحظر ، وجزم به النووي ، ومن ثم قال بعضهم نسخه . والمعتمد فقها يكره ذلك تنزيها والله أعلم .

( الثاني ) : مفهوم كلام الناظم لو كانوا أربعة فتناجى ثلاثة دون الرابع أن ذلك مكروه . قال في الرعاية : ويكره أن يتناجى اثنان دون ثالثهما . وفي المجرد : ولا يتناجى اثنان دون واحد . قال في الآداب : ومرادهم جماعة دون واحد اقتصر عليه . وقال الحجاوي : ولا يكره إلا إذا كانوا ثلاثة لا أربعة فأكثر . فقول الناظم الجمع يحمل على الاثنين لأنه أقل الجمع على قول .

ولا يستقيم أن يكون مراده بالجمع الثلاثة لأنه يفضي إلى الكراهة إذا كانوا أربعة واستدل لذلك بحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { إذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث } أخرجاه وزاد أبو صالح قلت لابن عمر فأربعة ؟ قال لا يضرك رواه مالك في الموطأ عن عبد الله بن دينار وقال كنت أنا وابن عمر عند دار خالد بن عقبة التي في السوق فجاء رجل يريد أن يناجيه وليس مع ابن عمر أحد غيري ، فدعا ابن عمر رجلا آخر حتى كنا أربعة ، فقال لي وللرجل الثالث الذي دعا استأخرا شيئا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { لا يتناجى اثنان دون واحد فإن كانوا أربعة فيتناجى اثنان } لم يكره لقصة ابن عمر وأما أن يتناجى من الأربعة ثلاثة دون واحد فالأظهر الكراهة .

وأنت خبير بأن في كلام الحجاوي رحمه الله مسامحة في حمل كلام الناظم على ما حمله ، وهل أحد قال : إن الجمع اثنان فقط ، وإنما قالوا أقل الجمع اثنان على مذهب وهو مرجوح ، وقليل بالنسبة إلى ما قابله من أن أقل الجمع ثلاثة ، والقرآن مملوء بذلك .

وأما كون أقل الجمع اثنين إنما ورد في حجب الأم من الثلث إلى السدس . وهذا الجمع قليل جدا في كلام العرب ، لكن ما أحد قال إن الجمع لا يطلق على الثلاثة فأكثر . وصاحب الآداب الكبرى قال مرادهم جماعة دون واحد ، واستشهد بكلام الناظم ولم يذكر خلافه .

وأما استدلال الحجاوي بقصه ابن دينار مع ابن عمر ومناداته [ ص: 342 ] للرجل الرابع فلا دليل له بذلك ، فإن ظاهر كلام الناظم مشعر بذلك حيث قيد انفراد الذي لم يدخل معهما أو معهم في المناجاة ، فإن مفهومه متى كان معه واحد فأكثر لم يكره اختصاص بعض الجمع بالمناجاة ، وهذا ظاهر لا غبار عليه وهو المذهب بلا ريب ، وإنما المكروه انفراد الجمع بالمناجاة دون واحد منفرد ليس معه من يناجيه ولا يستأنس به .

ولا سيما إذا كانوا في سفر أو موضع مخيف والعلة التي ذكروها في الاثنين دون الثالث موجودة في الثلاث فأكثر دون واحد فالأظهر والله أعلم إبقاء كلام الناظم على عمومه .

وأما لفظ الحديث فهذا مفهوم عدد وقد اختلف فيه علماء الأصول هل يكون مفهومه حجة أو لا الأكثر على أنه لا مفهوم للعدد . وأيضا مراد النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم أن الثلاثة أقل ما يمكن انفراد اثنين دون واحد هذا ما ظهر لي الآن والله ولي الإحسان . ثم رأيت الحافظ ابن حجر في شرح البخاري صرح بما قلنا .

قال وقد نقل ابن بطال عن أشهب عن مالك قال : لا يتناجى ثلاثة دون واحد ولا عشرة لأنه قد نهى أن يترك واحد . قال وهذا مستنبط من حديث الباب يعني حديث ابن مسعود الذي ذكرناه . قال لأن المعنى في ترك الجماعة للواحد كترك الاثنين للواحد .

وقال المازري ومن تبعه : لا فرق في المعنى بين الاثنين والجماعة لوجود المعنى في حق الواحد ، زاد القرطبي : بل وجوده في العدد الكثير أمكن وأشد فليكن المنع أولى . قال وإنما خص الثلاثة بالذكر لأنه أول عدد يتصور فيه ذلك المعنى . فهما وجدا المعنى فيه ألحق به في الحكم . انتهى .

( الثالث ) : محل الكراهة ما لم يأذن الواحد المنفرد للجمع في المناجاة ، فإن أذن فلا كراهة لأن الحق له . قاله في الآداب عن بعضهم . وذكر النهي عن الإصغاء إلى من يتحدث سرا بدون إذنه . قال وإن كان إذنه استحياء فذكر صاحب النظم يكره . وقد ذكر ابن الجوزي أن من أعطى مالا حياء لم يجز الأخذ . قال في الرعاية وهو معنى ما في الفصول . انتهى .

ويتجه مثله هنا أن لو أذن لهم في المناجاة حياء منهم بأن استأذنوه فأذن لهم على جهة الحياء كره انفرادهم عنه ، ولا يكون هذا الإذن منافيا والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية