الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                [ ص: 373 ] 29 - باب

                                غسل ما يصيب من فرج المرأة

                                288 292 - حدثنا أبو معمر : نا عبد الوارث ، عن الحسين المعلم : قال يحيى : وأخبرني أبو سلمة أن عطاء بن يسار أخبره ، أن زيد بن خالد الجهني أخبره ، أنه سأل عثمان بن عفان ، فقال : أرأيت إذا جامع الرجل امرأته ، فلم يمن ؟ فقال عثمان : يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ، ويغسل ذكره . وقال عثمان : سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                فسألت عن ذلك علي بن أبي طالب ، والزبير بن العوام ، وطلحة بن عبيد الله ، وأبي بن كعب - فأمروه بذلك .

                                وأخبرني أبو سلمة أن عروة بن الزبير أخبره أن أبا أيوب أخبره أنه سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                289 293 - حدثنا مسدد : نا يحيى ، عن هشام بن عروة ، قال : أخبرني أبي ، قال : أخبرني أبو أيوب ، قال : أخبرني أبي بن كعب ، أنه قال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا جامع الرجل [المرأة] ، فلم ينزل ! قال : ( يغسل ما مس المرأة منه ، ثم يتوضأ ويصلي ) .

                                قال أبو عبد الله : الغسل أحوط ، وذلك الأخير ; إنما بينا لاختلافهم .

                                التالي السابق


                                الذي وقع في الرواية الأولى عن أبي سلمة ، عن عروة ، أن أبا أيوب أخبره ، أنه سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم - هم ، نبه عليه الدارقطني وغيره .

                                [ ص: 374 ] تدل عليه الرواية الثانية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه : أخبرني أبو أيوب ، قال : أخبرني أبي بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                وقد روى عبد الرحمن بن سعاد ، عن أبي أيوب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( الماء من الماء ) .

                                خرجه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه ، وليس فيه تصريح أبي أيوب بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم .

                                وقد خرج البخاري فيما تقدم في ذكر نواقض الوضوء حديث ذكوان أبي صالح ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( إذا أعجلت ، أو أقحطت - فلا غسل عليك ) .

                                وخرج أيضا حديث يحيى بن أبي كثير الذي خرجه هنا من طريق شيبان ، عن يحيى ، إلى قوله في آخر الحديث : ( وأبي بن كعب ، فأمروه بذلك ) ، ولم يذكر ما بعده ، ولعله تركه لما وقع فيه من الوهم الذي ذكرناه .

                                وعند البخاري في كلتا الروايتين أن عليا والزبير وطلحة وأبي بن كعب أفتوا بذلك ، ولم يرفعوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

                                وقد وقع في رواية غيره أنهم رفعوه أيضا إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

                                وقد قال علي بن المديني في هذا الحديث : إنه شاذ .

                                وقال ابن عبد البر : هو منكر ; لم يتابع عليه يحيى بن أبي كثير .

                                وقد صح عن أكثر من ذكر عنه من الصحابة أنه لا غسل بدون الإنزال - [ ص: 375 ] خلاف ذلك .

                                قال علي بن المديني : قد روي عن علي وعثمان وأبي بن كعب بأسانيد جياد أنهم أفتوا بخلاف ما في هذا الحديث .

                                وقال الدارقطني : رواه زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن زيد بن خالد - أنه سأل خمسة أو أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمروه بذلك ، ولم يرفعه .

                                يشير إلى أن زيد بن أسلم يخالف أبا سلمة في رفعه ، ولم يرفع منه شيئا .

                                وقد كان قوم من الأنصار قديما يقولون : ( إن الماء من الماء ) ، ثم استقر الأمر على أنه إذا التقى الختانان وجب الغسل ، ورجع أكثر من كان يخالف في ذلك عنه .

                                وأما المهاجرون فقد صح عنهم أنهم قالوا : ( إذا التقى الختانان وجب الغسل ) ، منهم عمر ، وعثمان ، وعلي . فدل على أن عثمان وعليا علموا أن ( الماء من الماء ) نسخ ، وإلا فكيف يروي عثمان أو غيره عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ، ثم يرجع عن القول به ؟

                                وفي ( صحيح مسلم ) عن أبي موسى ، قال : اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار ، فقال الأنصاريون : لا يجب الغسل إلا من الدفق أو من الماء ، فقال المهاجرون : بل إذا خالط فقد وجب الغسل . قال : قال أبو موسى : فأنا أشفيكم من ذلك . وذكر قيامه إلى عائشة وما روته له عن النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق ذكره .

                                وروى وكيع ، عن القاسم بن الفضل ، عن أبي جعفر محمد بن علي ، قال : قال المهاجرون : إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل ، وقال الأنصار : الماء من الماء .

                                [ ص: 376 ] وروى ابن أبي شيبة ، عن حفص بن غياث ، عن حجاج ، عن أبي جعفر ، قال : أجمع المهاجرون أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي - أن ما أوجب الحدين : الجلد والرجم ، أوجب الغسل .

                                وروى إبراهيم بن مسلم الخوارزمي في ( كتاب الطهور ) عن ابن نمير ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، قال : كان أبو بكر وعمر يأمران بالغسل ، يعني : من الإكسال .

                                وروى مالك عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، قال : إن عمر وعثمان وعائشة كانوا يقولون : إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل .

                                وروى عبد الرزاق عن معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، قال : كان عمر وعثمان وعائشة والمهاجرون الأولون يقولون : إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل .

                                وروى وكيع ، عن محمد بن قيس الأسدي ، عن علي بن ربيعة ، عن علي ، قال : إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل .

                                وروى ابن أبي شيبة والأثرم بإسنادهما ، عن عاصم ، عن زر ، عن علي ، قال : إذا التقى الختانان وجب الغسل . وقد روي عن علي من وجوه متعددة .

                                فهؤلاء الخلفاء الراشدون - رضي الله عنهم - قد أجمعوا على ذلك ، مع أن بعضهم روى عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه ، فلولا أنهم علموا أن ما خالف ذلك منسوخ لما خالفوا ما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم . ووافقهم على ذلك أكابر الصحابة ، منهم : [ ص: 377 ] ابن مسعود ، وابن عمر ، وأبو ذر ، وأبو هريرة ، ومعاذ بن جبل فقيه الأنصار ، وأبو هريرة ، وعائشة أم المؤمنين وهي أعلم الناس بهذا ، وإليها مرجع الناس كلهم .

                                وقد صح عنها أنها أفتت بذلك ، وأمرت به ، وأن الصحابة الذين سمعوا منها رجعوا إلى قولها في ذلك ; فإنها لا تقول مثل هذا إلا عن علم عندها فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا سيما وقد علمت اختلاف الصحابة في ذلك .

                                وجمع عمر الناس كلهم على قولها ، فلو كان قولها رأيا مجردا عن رواية لما استجازت رد روايات غيرها من الصحابة برأيها .

                                وقد روي عنها من وجوه كثيرة ، وبعضها صحيح كما تقدم - أنها روته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلا .

                                فما بقي بعد ذلك سوى العناد والتعنت ، ونعوذ بالله من مخالفة ما أجمع عليه الخلفاء الراشدون ، وجمع عليه عمر كلمة المسلمين ، وأفتت به عائشة أم المؤمنين أفقه نساء هذه الأمة ، وهي أعلم بمستند هذه المسألة من الخلق أجمعين .

                                فروى مالك عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، أن أبا موسى الأشعري أتى عائشة أم المؤمنين ، فقال لها : لقد شق علي اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر إني لأعظم أن أستقبلك به ! قالت : ما هو ؟ ما كنت سائلا عنه أمك فسلني عنه ! قال لها : الرجل يصيب أهله ، ثم يكسل ولا ينزل ؟ فقالت : إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل . فقال أبو موسى : لا أسأل عن هذا أحدا بعدك .

                                [ ص: 378 ] ورواه حماد بن زيد وعبد الوهاب الثقفي وغيرهما ، عن يحيى بن سعيد - بنحوه . وسمى عبد الوهاب في روايته من قال : لا يجب الغسل بذلك : أبي بن كعب وأبا أيوب وزيد بن ثابت ، وسمى ممن يأمر بالغسل عمر وعثمان .

                                وروى ابن إسحاق ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن معمر بن عبد الله بن أبي حيية ، عن عبيد بن رفاعة بن رافع ، عن أبيه رفاعة ، قال : كنت عند عمر ، فقيل له : إن زيد بن ثابت يفتي برأيه في الذي يجامع ولا ينزل . فدعاه ، فقال : أي عدو نفسه ! قد بلغت أن تفتي الناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيك ! قال : ما فعلت ، ولكن حدثني عمومتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : أي عمومتك ؟ قال : أبي بن كعب ، وأبو أيوب ، ورفاعة بن رافع . قال : فالتفت عمر إلي ، فقلت : كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فسألتم عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : كنا نفعله على عهده .

                                قال : فجمع الناس ، وأصفق الناس على أن الماء لا يكون إلا من الماء ، إلا رجلين : علي بن أبي طالب ، ومعاذ بن جبل ، قالا : إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل . فقال علي : يا أمير المؤمنين ، إن أعلم الناس بهذا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إلى حفصة ، فقالت : لا علم لي . فأرسل إلى عائشة ، فقالت : إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل . قال : فتحطم عمر - يعني : تغيظ - ثم قال : لا يبلغني أن أحدا فعله ولم يغتسل إلا أنهكته عقوبة
                                .

                                [ ص: 379 ] خرجه الإمام أحمد وبقي بن مخلد في ( مسنديهما ) ، ومسلم في ( كتاب التفصيل ) وهو ( كتاب الناسخ والمنسوخ ) له .

                                ثم خرجه من طريق عبد الله بن صالح ، عن الليث : حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن معمر بن أبي حيية ، عن عبيد بن رفاعة ، أن زيد بن ثابت كان يقول - فذكره بنحوه ، ولم يقل : ( عن أبيه ) .

                                ومعمر بن أبي حيية ، ويقال : ابن أبي حبيبة - وثقه ابن معين وغيره . وعبيد بن رفاعة ذكره ابن حبان في ( ثقاته ) .

                                وهذه الرواية يستفاد منها أمور :

                                منها أن كثيرا من الأنصار كان يقلد بعضهم بعضا في هذه المسألة ، ولم يسمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم إلا قليل منهم .

                                ومنها أنه لم يظهر في ذلك المجلس شيء من روايات الأنصار الصريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما ظهر التمسك بفعل كانوا يفعلونه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأل عمر : هل علم به النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فلم يكن لهم جواب ، وهذا مما يدل على أن تلك الروايات التصريحية حصل الوهم في نقلها من بعض الرواة .

                                ومنها أن المهاجرين الذين روي أنهم كانوا يخالفون في ذلك ويروون عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه كعثمان رجعوا عما سمعوه منه ، وكذلك الأنصار أيضا ورأسهم أبي بن كعب رجع ، وأخبر أن ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كان رخصة في أول الأمر ، ثم نسخ وزال . وهذا يدل على أنه تبين لهم نسخ ما كانوا سمعوه بيانا شافيا ، بحيث لم يبق فيه لبس ولا شك .

                                وقد ذكر الشافعي أنه اتفق هو ومن ناظره في هذه المسألة على أن هذا [ ص: 380 ] أقوى مما يستدل به عليها .

                                ويدل على رجوع أبي وغيره من الأنصار ما روى الزهري ، عن سهل بن سعد ، عن أبي بن كعب ، قال : إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام ، ثم نهي عنها .

                                خرجه الترمذي ، وقال : حسن صحيح . وخرجه ابن ماجه مختصرا .

                                وخرجه الإمام أحمد ولفظه : إن الفتيا التي كانوا يقولون : الماء من الماء - رخصة كان النبي صلى الله عليه وسلم رخص بها في أول الإسلام ، ثم أمرنا بالغسل بعد .

                                وخرجه ابن خزيمة في ( صحيحه ) من طريق معمر ، عن الزهري ، قال : أخبرني سهل بن سعد ، قال : إنما كان قول الأنصار : الماء من الماء - رخصة في أول الإسلام ، ثم أمرنا بالغسل .

                                ولم يذكر في إسناده ( أبيا ) ، وصرح فيه بسماع الزهري .

                                وقيل : إنه وهم في ذلك ; فإن الزهري لم يسمعه من سهل ; فقد خرجه أبو داود وابن خزيمة أيضا من طريق عمرو بن الحارث ، عن الزهري ، قال : حدثني بعض من أرضى ، عن سهل ، عن أبي - فذكره .

                                ورجح هذه الرواية الإمام أحمد والدارقطني ، وغيرهما .

                                [ ص: 381 ] ورجح آخرون سماع الزهري له من سهل ، منهم ابن حبان .

                                ووقع في بعض نسخ ( سنن أبي داود ) ما يدل عليه ; فإنه لم يذكر أحد من أصحاب الزهري بين الزهري وسهل رجلا [غير] عمرو بن الحارث ، فلا يقضى له على سائر أصحاب الزهري .

                                وقد خرجه ابن شاهين من طريق ابن المبارك ، عن يونس ، عن الزهري ، قال : حدثني سهل بن سعد ، عن أبي بن كعب - فذكره ، به .

                                وبتقدير أن يكون ذلك محفوظا فقد أخبر الزهري أن هذا الذي حدثه يرضاه ، وتوثيق الزهري كاف في قبول خبره .

                                [ ص: 382 ] وقد قيل : إنه أبو حازم الزاهد ، وهو ثقة جليل ، فقد خرج أبو داود وابن خزيمة من رواية أبي غسان محمد بن مطرف ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، قال : حدثني أبي بن كعب - فذكره .

                                قال البيهقي : هذا إسناد صحيح موصول .

                                وقد ذكر ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، أن بعضهم ذكر أنه لا يعرف له أصلا . وفي ذلك نظر .

                                وقد روي عن أبي بن كعب من وجوه أخر :

                                روى شعبة ، عن سيف بن وهب ، عن أبي حرب بن أبي الأسود ، عن عميرة بن يثربي ، عن أبي بن كعب قال : إذا التقى ملتقاهما فقد وجب الغسل . خرجه ابن أبي شيبة والبخاري في ( تاريخه ) .

                                وروى مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن عبد الله بن كعب مولى عثمان ، أن محمود بن لبيد سأل زيد بن ثابت عن الرجل يصيب أهله ، ثم يكسل ولا ينزل ، فقال زيد : يغتسل . فقال له محمود بن لبيد : إن أبي بن كعب كان لا يرى الغسل ! فقال له زيد : إن أبيا نزع عن ذلك قبل أن يموت .

                                وقال الشافعي : أنا إبراهيم بن محمد ، عن خارجة بن زيد ، عن أبيه ، عن أبي بن كعب ، أنه كان يقول : ليس على من لم ينزل غسل ، ثم نزع عن ذلك أبي قبل أن يموت .

                                وقد روي عن عائشة ما يدل على النسخ من رواية الحسين بن عمران : حدثني الزهري ، قال : سألت عروة عن الذي يجامع ولا ينزل ، قال : نول [ ص: 383 ] الناس أن يأخذوا بالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حدثتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ولا يغتسل ، وذلك قبل فتح مكة . ثم اغتسل بعد ذلك ، وأمر الناس بالغسل .

                                خرجه ابن حبان في ( صحيحه ) والدارقطني .

                                والحسين بن عمران ذكره ابن حبان في ( ثقاته ) ، وقال الدارقطني : لا بأس به ، وقال البخاري : لا يتابع على حديثه .

                                وقال العقيلي بعد تخريجه لهذا الحديث : الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الغسل لالتقاء الختانين ، ولا يحفظ هذا اللفظ إلا في هذا الحديث .

                                والقول بأن ( الماء من الماء ) - نسخ بالأمر بالغسل من التقاء الختانين هو المشهور عند العلماء من الفقهاء والمحدثين ، وقد قرره الشافعي وأحمد ومسلم بن الحجاج والترمذي وأبو حاتم الرازي وغيرهم من الأئمة .

                                وقد روي معنى ذلك عن سعيد بن المسيب وغيره من السلف .

                                وقد قيل : إن ( الماء من الماء ) - إنما كان في الاحتلام . وقد روي عن ابن عباس هذا التأويل . خرجه الترمذي من وجه فيه مقال .

                                [ ص: 384 ] وروي أيضا عن عكرمة ، وذهب إليه طائفة .

                                وهذا التأويل إن احتمل في قوله : ( الماء من الماء ) ، فلا يحتمل في قوله : ( إذا أعجلت - أو أقحطت - فلا غسل عليك ) ، وفي قوله : ( يغسل ما مس المرأة منه ، ويتوضأ ، ويصلي ) .

                                وقال طائفة من العلماء : لما اختلفت الأحاديث في هذا وجب الأخذ بأحاديث الغسل من التقاء الختانين ; لما فيها من الزيادة التي لم يثبت لها معارض ، ولم تبرأ الذمة بدون الاغتسال ; لأنه قد تحقق أن التقاء الختانين موجب لطهارة . ووقع التردد : هل يكفي الوضوء ؟ أو لا يكفي دون غسل البدن كله ؟ فوجب الأخذ بالغسل ; لأنه لا يتيقن براءة الذمة بدونه .

                                وهذا معنى قول البخاري : الغسل أحوط .

                                ولذلك قال أحمد في رواية ابن القاسم : الأمر عندي في الجماع أن آخذ بالاحتياط فيه ، ولا أقول : الماء من الماء .

                                وسلك بعضهم مسلكا آخر ، وهو أن المجامع وإن لم ينزل يسمى جنبا ومجامعا وواطئا ، ويترتب جميع أحكام الوطء عليه ، والغسل من جملة الأحكام .

                                وهذا معنى قول من قال من السلف : أنوجب المهر والحد ، ولا نوجب الغسل ؟

                                وهذا القول هو الذي استقر عليه عمل المسلمين .

                                وقد خالف فيه شرذمة من المتقدمين ، منهم أبو سلمة وعروة وهشام بن عروة والأعمش وابن عيينة ، وحكي عن الزهري وداود .

                                وقال ابن عبد البر : اختلف أصحاب داود في هذه المسألة . وقال ابن المنذر : لا أعلم اليوم بين أهل العلم في ذلك اختلافا .

                                [ ص: 385 ] وذهب إليه طائفة من أهل الحديث ، منهم بقي بن مخلد الأندلسي . وقد نسبه بعضهم إلى البخاري ، وليس في كلامه ما يصرح به . وحكاه الشافعي عن بعض أهل الحديث من أهل ناحيتهم وغيرهم ، وذكر مناظرته لهم .

                                وقد كان بعض الناس في زمن الإمام أحمد ينسب ذلك إليه ، فكان أحمد ينكر ذلك ، ويقول : ما أحفظ أني قلت به قط . وقيل له : بلغنا أنك تقوله ، فقال : الله المستعان . وقال أيضا : من يكذب علي في هذا أكثر من ذاك .

                                وأحمد من أبعد الناس عن هذه المقالة ، فظاهر كلامه يدل على أن الخلاف فيها غير سائغ ; فإنه نص على أنه لو فعل ذلك مرة أنه يعيد الصلاة التي صلاها بغير غسل من التقاء الختانين ، ونص على أنه لا يصلى خلف من يقول : ( الماء من الماء ) ، مع قوله : إنه يصلى خلف من يحتجم ولا يتوضأ ، ومن يمس ذكره ولا يتوضأ متأولا ; فدل على أن القول بأن ( الماء من الماء ) لا مساغ للخلاف فيه .

                                وكذلك ذكر ابن أبي موسى وغيره من الأصحاب .

                                وحمل أبو بكر عبد العزيز كلام أحمد على أنه لم يكن متأولا ، وهذا لا يصح ; لأن القول بأن ( الماء من الماء ) - لا يكون بغير تأويل . والله أعلم .

                                وقد سبق عن عمر أنه قال : لا أوتى بأحد فعله إلا أنهكته عقوبة .

                                وقد روي عنه من وجه آخر ، رواه ابن أبي شيبة عن ابن إدريس ، عن الشيباني ، عن بكير بن الأخنس ، عن سعيد بن المسيب ، قال : قال عمر : لا أوتى برجل فعله - يعني : جامع ولم يغتسل ; يعني : وهو لم ينزل - إلا أنهكته عقوبة .

                                وخرجه إبراهيم بن مسلم الخوارزمي في ( كتاب الطهور ) عن أسباط بن محمد ، عن الشيباني - به .

                                [ ص: 386 ] وفي رواية أن سعيد بن المسيب قال : سمعت عمر بن الخطاب على المنبر يقول : لا أجد أحدا جامع امرأته ولم يغتسل ، أنزل أو لم ينزل - إلا عاقبته .

                                وقد قال عمر هذا بمحضر من المهاجرين والأنصار ، ولم يخالف فيه أحد .

                                والظاهر أن جميع من كان يخالف فيه من الأنصار رجع عنه ، ورأسهم أبي بن كعب وزيد بن ثابت ، ومن المهاجرين عثمان بن عفان .

                                وفي رجوع أبي بن كعب وعثمان بن عفان مع سماعهما من النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك - دليل على أنه ظهر لهما أن ما سمعاه زال حكمه ، واستقر العمل على غيره .

                                وعامة من روي عنه ( إن الماء من الماء ) - روي عنه خلاف ذلك ، والغسل من التقاء الختانين ، منهم : عثمان ، وعلي ، وسعد بن أبي وقاص ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وزيد بن ثابت ، وأبي بن كعب ، ورافع بن خديج .

                                وهذا يدل على رجوعهم عما قالوه في ذلك ; فإن القول بنسخ ( الماء من الماء ) مشهور بين العلماء ، ولم يقل أحد منهم بالعكس .

                                وقد روت عائشة وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم الغسل بالتقاء الختانين .

                                وقد روي ذلك أيضا من رواية عبد الله بن عمرو ورافع بن خديج ومعاذ بن جبل وابن عمر وأبي أمامة وغيرهم ، إلا أن في أسانيدها ضعفا . وفي حديث رافع التصريح بنسخ الرخصة أيضا .

                                اعلم أن هذا الضعف إنما هو في الطرق التي وصلت إلينا منها هذه الأخبار ، فأما المجمع الذي جمع عمر فيه المهاجرين والأنصار ، ورجع فيه أعيان من كان سمع من النبي صلى الله عليه وسلم الرخصة - فإنهم لم يرجعوا إلا لأمر ظهر لهم [ ص: 387 ] في ذلك الجمع وبعده ، وعلموه وتيقنوه ، وإن كانت تفاصيله لم تنقل إلينا . واستقر من حينئذ العمل على الغسل من التقاء الختانين ، ولم يصح عن أحد من الصحابة بعد ذلك إظهار الفتيا بخلافه . فوجب اتباع سبيل المؤمنين ، والأخذ بما جمع عليه الأمة أمير المؤمنين ، والرجوع إلى من رجعت إليه الصحابة في العلم بهذه المسألة ، وهي أم المؤمنين.

                                والمخالف يشغب بذكر الأحاديث التي رجع عنها رواتها ، ويقول : هي صحيحة الأسانيد ، وربما يقول : هي أصح إسنادا من الأحاديث المخالفة لها .

                                ومن هنا كره طوائف من العلماء ذكر مثل هذه الأحاديث والتحديث بها ; لأنها تورث الشبهة في نفوس كثير من الناس .

                                وخرج الإسماعيلي في ( صحيحه ) من حديث زيد بن أخزم ، قال : سمعت يحيى - يعني : القطان - وسئل عن حديث هشام بن عروة حديث أبي أيوب : ( الماء من الماء ) ، فقال : نهاني عنه عبد الرحمن ، يعني : ابن مهدي .

                                ولهذا المعنى - والله أعلم - لم يخرج مالك في ( الموطأ ) شيئا من هذه الأحاديث ، وهي أسانيد حجازية على شرطه .

                                والمقصود بهذا أن هذه المسائل التي اجتمعت كلمة المسلمين عليها من زمن الصحابة ، وقل المخالف فيها وندر ، ولم يجسر على إظهارها لإنكار المسلمين عليه - [كلها] يجب على المؤمن الأخذ بما اتفق المسلمون على العمل به ظاهرا ; فإن هذه الأمة لا يظهر أهل باطلها على أهل حقها ، كما أنها لا تجتمع على ضلالة ، كما روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                خرجه أبو داود وغيره .

                                [ ص: 388 ] فهذه المسائل قد كفي المسلم أمرها ، ولم يبق فيها إلا اتباع ما جمع عليه الخلفاء الراشدون أولي العلم والعدل والكمال ، دون الاشتغال فيها بالبحث والجدال وكثرة القيل والقال ; فإن هذا كله لم يكن يخفى عمن سلف ، ولا يظن ذلك بهم سوى أهل الجهل والضلال . والله المسئول العصمة والتوفيق .



                                الخدمات العلمية