الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          بعد ذلك ذكر حال الذين آمنوا وفتنوا وأوذوا وهاجروا في سبيل الله، فقال تعالى:

                                                          ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ، (ثم) هنا للعطف والتباين بين فريقين فريق شرح صدره للكفر آذى غيره، وفريق ثبت على الإيمان وصبر على الأذى وهاجر.

                                                          [ ص: 4282 ] و إن ربك للذين هاجروا فيها معنى الحماية الكاملة، والاعتماد على ركن لا خلل فيه فقط، كما يقول القائل: للسارقين ما سرقوا، ولذي المال ما ملكوا، ولكل إنسان ما يملك من مال ونسب. وأما المؤمنون الصادقون في إيمانهم فلهم الجنة، فمعنى هذه الجملة السابقة أن قوتهم وحمايتهم من الله فقط؛ ولذا قدم قوله تعالى: إن ربك على الجار والمجرور؛ لبيان مكانة ناصرهم، وأنه فوق النصراء جميعا، فإذا كان الأقوياء قد آذوهم وأعنتوهم، وحرموا الهناءة، إلا أن تكون قلوبهم عامرة بذكر الله. وقوله: "للذين" بـ (اللام) للاختصاص، أي أنهم مختصون به دون غيرهم.

                                                          وقال تعالى: من بعد ما فتنوا الفتن يكون للمعدن ليخرج ما خالطه من مواد مغايرة لجوهره، وفتن المؤمن تمحيصه، وأن تذهب كل ما عساه يعلق به من أدران الدنيا، والهجرة الواضحة هنا أنها هجرة الأولين إلى الحبشة، ويصح أن يراد الهجرة إلى الحبشة والمدينة وإذا كانت السورة مكية، فهي تنبئنا بالهجرة إلى المدينة التي كانت أول الجهاد ومن كان الجهاد، وقوله تعالى بعد ذلك: ثم جاهدوا وصبروا إخبار بأنه سيكون جهاد بحمل السيف، والغزوات المباركة، والسرايا التي كان يبعثها النبي - صلى الله عليه وسلم - للجهاد والدعوة. وإن عطف (وصبروا) على (الجهاد) مع أن الجهاد عدته الصبر أولا، وإعداد الأدوات بالمحل الثاني، إن هذا العطف يفيد أن المؤمن يختبر بأمرين: الصبر، وهو مختبر به دائما، وقد كان قوة المؤمنين وهم بمكة، وثاني الأمرين: الجهاد في سبيل الله بحمل السيف مدافعا محاربا، وهذا يحتاج الصبر كما قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون

                                                          وبعد أن ذكر سبحانه وتعالى أنه للمؤمنين في مقابل أن الذين كفروا بعد إيمانهم للشيطان، ذكر سبحانه أخص صفات الذات العلية، وهو أنه غفور رحيم، قال: إن ربك من بعدها لغفور رحيم الضمير في (بعدها) يعود إلى الهجرة؛ ذلك لأن الهجرة بعد صقل النفوس بالفتنة تتجه إلى الله، وقد سترت كل ذنوبها، [ ص: 4283 ] فيكون الخلاص لله تعالى، ومن بعد ذلك يكون الغفران، وتكون الرحمة بالنصر في الدنيا، والجنة في الآخرة.

                                                          وفي قوله تعالى: إن ربك من بعدها لغفور رحيم يفيد أمورا أربعة:

                                                          الأمر الأول: تكرار الربوبية، وفي ذلك دلالة على أنه مع المؤمنين دائما ولا يتركهم، وهو ربهم والمتولي أمورهم.

                                                          الأمر الثاني: تأكيد هذه الصلة بالعبودية والربوبية بعد الهجرة، كما كانت.

                                                          الأمر الثالث: تأكيد المغفرة والرحمة، فقد أكد بالجملة الاسمية، و(إن) و(اللام).

                                                          الأمر الرابع: دوام الرحمة والمغفرة؛ ولذا كان بصيغة المبالغة الدالة على دوام رحمة الله بالمؤمنين، وذكر الغفران لما عساه يكون منه من عبارات موهمة لمطاوعة المشركين،

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية