الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
ثم قالوا في جواب ما ذكروه من إبطال الغرض -قوله في "الوجه الثاني" في إبطال هذا القسم- إن كل من فعل فعلا لغرض فهو أخس من ذلك الغرض.

قلنا: القضايا المبنية على الشرف والخسة قضايا غير علمية بل خطابية، فلا يمكن بناء القواعد العلمية عليها على أننا [ ص: 11 ] ننقض هذه القضية بالراعي، فإنه ليس أخس من الغنم، وبالنبي فلأن أمته ليسوا بأشرف منه، فهكذا ههنا.

وهذا جواب ضعيف وقد تعلمه من ابن سينا؛ فإنه هو القائل في "الشفاء": "إن القضايا المبنية على الشرف والخسة قضايا خطابية". وليس الأمر كذلك؛ فإنه من المعلوم [ ص: 12 ] ببديهة العقول أن الشيء إذا لم يقصد به إلا أن يكون وسيلة وطريقا إلى غيره، فالذي هو المقصود بذاته يجب أن يكون أكمل في الوجود من الذي ليس يراد منه إلا أن يكون وسيلة إلى غيره.. والمعنى بالشرف كمال الوجود، وبالخسة نقص الوجود، وهذا أمر معقول؛ بل على مثل ذلك تنبني عامة البراهين الصحيحة؛ بل معرفة الفطرة بمثل هذه القضية أبين عندها من كثير من القضايا البديهية؛ لأنه يجتمع فيها العلم والحب، فتبقى معلومة بالعقل موجودة مذوقة بوجد القلب وذوقه وإحساسه، فتكون من القضايا العقلية المحسوسة بالحس الباطن: وإلا فهل يقول عاقل: إن الموجود الذي يكون وجوده أكمل من غيره لا يقصد به إلا أن يكون وسيلة إلى الموجود الذي هو دونه وأنقص منه؟ !

وأما ما ذكره من التمثيل بالنبي والراعي، فيقال: منشأ الغلط في مثل هذا هو اشتباه المقصود بالقصد الأول بالمقصود بالقصد الثاني، وذلك أن الراعي ليس مقصوده الأول برعاية الغنم مجرد نفعها بدون غرض يحصل له هو من ذلك؛ بل إنما [ ص: 13 ] يقصد أولا ما كان مصلحة له ونفعا وكمالا: إما تحصيل الأجرة وهو المال الذي ينتفع به ويقضي به حاجاته أو يتشرف به وإما رحمة للغنم وإحسانا إليها ليدفع عن نفسه الألم الحاصل إذا كان الحيوان محتاجا متألما وهو لا يزيل ألمه. أو فيحصل له الراحة والعافية من هذا الألم، أو يحصل له تنعم وفرح وسرور بالإحسان إليها، أو أن تكون له أو لصديقه أو لقريبه فيقصد برعايته ما يحصل له من المنفعة والفرح والسرور وزوال الضرر بمثل ذلك. وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم فإنه بالإحسان إلى الأمة إنما يقصد ما يناله من التقرب إلى الله تعالى وعبادته، والإحسان إلى عباده من أنواع المطالب والمقاصد التي هي أشرف وأعظم من فعله بهم، فمطلوبه ومقصوده أعظم وأشرف من فعله، وربه الذي يعبده ويبتغي وجهه أعظم من العباد الذين ينفعهم. فأما أن تكون الغاية المقصودة له بذاتها هي مجرد نفعهم من غير مقصود آخر يكون أشرف من هذا، فهذا إنما يقوله جاهل شديد الجهل بالمقاصد والنيات.

التالي السابق


الخدمات العلمية