الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وإذا كان الإسراف منهيا عنه، فالبخل أيضا منهي عنه، والاعتدال هو المطلوب ولا يكلف إنسان ما لا يقدر عليه، ولذا قال تعالى:

                                                          وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا .

                                                          الإعراض عن العطاء ألا يعطي ولا يمنع بل يسكت كأنه المعرض، ولا يستحسن المنع؛ لأن المنع فيه إيئاس من العطاء، ولا يريد ذو المروءة ألا يلقي اليأس والرد القاطع المؤيس في نفس طالب، ولكنه لا يعطي عجزا، أو لعدم استحقاق الطالب، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم -، ومن وراء خطابه خطاب أمته، والآية تأديب كريم وتوجيه إلى ما يكون عندما لا يكون مال يجب العطاء منه، أو عندما لا يكون موجب للعطاء.

                                                          و (إما) هي (إن) المدغمة في (ما) التي تفيد توكيد الإعراض بتوكيد حاله أو توكيد موجبه، ولذلك كانت نون التوكيد الثقيلة، كما تكون عند القسم.

                                                          وفي قوله تعالى: ابتغاء رحمة من ربك ترجوها تخريجات ثلاثة، وكلها يؤدي إلى معنى سليم في ذاته:

                                                          التخريج الأول: أن يكون (ابتغاء) تعليلا للإعراض أي أن الإعراض لتبتغي رحمة بهم من ربك ترجوها؛ كأن ينفقوها في معصية أو خمر، فالرحمة التي يبتغيها بالإعراض هي منعهم من المعاصي، أو عدم تسهيلها لهم بعدم المعاونة عليها، وهذا حسن في ذاته، وربما يكون بعيدا بالنسبة للمسكين وابن السبيل، وهو القريب المنقطع عن ماله، وقد يكون مقصودا بالنسبة للقريب، وأولئك هم موضوع الإعراض، لأن الضمير في قوله تعالى: وإما تعرضن عنهم يعود إلى هؤلاء.

                                                          [ ص: 4369 ] التخريج الثاني: أن يكون قوله تعالى: ابتغاء رحمة من ربك ترجوها متعلقا بجواب الشرط، أي فقل لهم قولا ميسورا طلبا لرحمة من ربك ترجوها برجاء يسر بعد عسر، أو لأن الجواب الجميل عند الإعراض فيه رحمة بهم لا تقل عن رحمة العطاء.

                                                          والتخريج الثالث: أن يكون قوله تعالى ابتغاء رحمة من ربك ترجوها متعلقا بالشرط لا بالجواب، على أن يكون المعنى هكذا: إما تعرضن عنهم لفقد القدرة على العطاء مع رجاء رزق هو رحمة من ربك ترجوها، لتعطيهم عند تحقيق الرجاء وهذا هو أقربها؛ إذ مؤداها أنك ترجو رزقا، وقد طلب منك العطاء في وقت لا مال معك، فلا تردهم ردا قاطعا مانعا، رجاء الرزق.

                                                          وجواب الشرط فقل لهم قولا ميسورا أي قولا سهلا لينا من غير جفوة، بل في عطف يدنيهم ولا يبعدهم، والميسور بوصف اسم المفعول من يسر، بالبناء للمجهول كسعد في قوله: وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها والقول الميسور لا يكون فيه قطع عن العطاء بل فيه رجاء لهم، كقوله يسر الله لي ولكم، أو أعطاني الله وأعطاكم.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية