الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          العبرة في الماضين

                                                          قال الله تعالى:

                                                          وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا

                                                          [ ص: 4407 ] وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا

                                                          (إن) هنا نافية، و(من) لاستغراق النفي، والقرية: المدينة العظيمة التي يبعث فيها الأنبياء، والحصر في الهلاك قبل يوم القيامة، أو العذاب في يوم القيامة، إنما هو في القرية الظالم أهلها الذين يكفرون بالنبيين، والهلاك هو اجتثاثهم في الدنيا بخسوف تجعل عاليها سافلها كما فعل بقوم لوط، أو بريح صرصر عاتية، كما فعل بعاد وثمود، أو بالغرق كما فعل بقوم فرعون وملئه، وغير هؤلاء، هذه هي الحال التي يكون فيها الاستئصال وقطع الدابر، وذلك يكون قبل يوم القيامة. الحالة الثانية أن يتركوا في الدنيا يعصون ويفسدون ويرتكبون المآثم، وأولئك لا يهلكون في الدنيا، ولكن يعذبون في الآخرة عذابا شديدا، كان ذلك في الكتاب مسطورا والكتاب هو اللوح المحفوظ الذي يسجل فيه ما يقضى به بين عباده.

                                                          وإن هذا التنويع لحكمة الله تعالى وتقديره، فإنه إذا كانت الدعوة خالدة باقية، وهي دعوة نبينا صلى الله عليه وسلم استأنى بهم لأن فيهم الطائعين، وليسوا قليلين، وفيهم من طغى وبغى، وفي ذرية الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم من كانوا مجاهدين كعكرمة ابن أبي جهل، وكخالد بن الوليد، وغيرهم ممن كان لهم في الجهاد باع مشهور، وقوله: " إلا نحن مهلكوها أو معذبوها " فيها تنوع حالهم، أو معذبوها و (أو) مانعة خلو، لا مانعة جميع، فكان منهم من أهلكوا قبل يوم القيامة ومن عذبوا بعدها، وأمة النبيمحمد صلى الله عليه وسلم لم يهلكها الله بعاصف يقتلعها من الأرض، ولكن أهلك العصاة لينالوا عذاب الآخرة.

                                                          [ ص: 4408 ] روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا، فأوحي إليه قد سمعت الذي قالوا، فإن شئت أن نفعل الذي قالوا، فإن لم يؤمنوا نزل العذاب، فإنه ليس بعد نزول الآية مناظرة، وإن شئت أن تستأني بقومك استأنيت بهم، قال: " يا رب استأن بهم " .

                                                          وقد ختم الله سبحانه الآية بقوله: كان ذلك في الكتاب مسطورا أي أنه مسجل في اللوح المحفوظ كما أشرنا من قبل، لقد تبين من هذا أن المشركين كانوا يطلبون آيات حسية كآيات النبيين السابقين كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص لعيسى، وكإخراج الموتى من القبور أيضا، وقد أجابهم الله تعالى بأنه أنزل هذه الآيات، ومع ذلك لم يؤمنوا، وإن هذه الآيات لا تبقى بقاء المعجزة الكبرى، وهي القرآن الكريم التي ما زالت تغالب كل باطل، وتؤيد كل حق، ولذا قال تعالى:

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية