الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              فصل

              أما العبادات : فأعظمها الصلاة . والناس إما أن يبتدئوا مسائلها بالطهور ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : مفتاح الصلاة الطهور كما رتبه أكثرهم ، وإما بالمواقيت التي تجب بها الصلاة ، كما فعله مالك وغيره .

              فأما الطهارة والنجاسة فنوعان من الحلال والحرام - في [ ص: 22 ] اللباس ونحوه - تابعان للحلال والحرام في الأطعمة والأشربة .

              ومذهب أهل الحديث في هذا الأصل العظيم الجامع وسط بين مذهب العراقيين والحجازيين ، فإن أهل المدينة - مالكا وغيره - يحرمون من الأشربة كل مسكر ، كما صحت بذلك النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة ، وليسوا في الأطعمة كذلك ، بل الغالب عليهم فيها عدم التحريم ، فيبيحون [ الطيور ] مطلقا وإن كانت من ذات المخالب ، [ ويكرهون ] كل ذي ناب من السباع ، وفي تحريمها عن مالك روايتان ، وكذلك في الحشرات عنه -هل هي محرمة، أو مكروهة - روايتان ، وكذلك البغال والحمير ، وروي عنه أنها مكروهة أشد من كراهة السباع ، وروي عنه : أنها محرمة بالسنة دون تحريم الحمير ، والخيل أيضا يكرهها ، لكن دون كراهة السباع .

              وأهل الكوفة في باب الأشربة مخالفون لأهل المدينة ولسائر الناس ، ليست الخمر عندهم إلا من العنب ، ولا يحرمون القليل من المسكر إلا أن يكون خمرا من العنب ، أو أن يكون من نبيذ التمر أو الزبيب النيء ، أو يكون من مطبوخ عصير العنب إذا لم يذهب ثلثاه ، وهم في الأطعمة في غاية التحريم حتى حرموا الخيل والضباب ، وقيل : إن أبا حنيفة يكره الضب والضباع ونحوها .

              فأخذ أهل الحديث في الأشربة بقول أهل المدينة وسائر [ ص: 23 ]

              [ أهل ] الأمصار ؛ موافقة للسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في التحريم ، وزادوا عليهم في متابعة السنة . وصنف الإمام أحمد كتابا كبيرا في الأشربة ، ما علمت [ أحدا ] صنف أكبر منه ، وكتابا أصغر منه . وهو أول من أظهر في العراق هذه السنة ، حتى إنه دخل بعضهم بغداد فقال : هل فيها من يحرم النبيذ ؟ فقالوا : لا ، إلا أحمد بن حنبل دون غيره من الأئمة ، وأخذ فيها بعامة السنة ، حتى إنه حرم العصير والنبيذ بعد ثلاث ، وإن لم يظهر فيه شدة ؛ متابعة للسنة المأثورة في ذلك ؛ لأن الثلاث مظنة ظهور الشدة غالبا ، والحكمة هنا مما تخفى ، فأقيمت المظنة مقام الحكمة ، حتى إنه كره الخليطين ، إما كراهة تنزيه أو تحريم على اختلاف الروايتين عنه ، وحتى اختلف قوله في الانتباذ في الأوعية : هل هو مباح أو محرم أو مكروه ؟ لأن أحاديث النهي كثيرة جدا وأحاديث النسخ قليلة . فاختلف اجتهاده : هل تنسخ تلك الأخبار المستفيضة بمثل هذه الأخبار التي لا تخرج عن كونها أخبار آحاد ، ولم يخرج البخاري منها شيئا ؟

              وأخذوا في الأطعمة بقول أهل الكوفة لصحة السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم كل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير ، وتحريم [ ص: 24 ] لحوم الحمر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على من تمسك في هذا الباب بعدم وجود نص التحريم في القرآن ، حيث قال : لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : بيننا وبينكم هذا القرآن فما وجدنا فيه من حلال استحللناه ، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه ، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله تعالى .

              وهذا المعنى محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه .

              [ ص: 25 ] وعلموا أن ما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم [ إنما هو ] زيادة تحريم ليس نسخا للقرآن ؛ لأن القرآن إنما دل على أن الله لم يحرم إلا الميتة والدم ولحم الخنزير ، وعدم التحريم ليس تحليلا ، وإنما هو بقاء للأمر على ما كان ، وهذا قد ذكره الله في سورة الأنعام التي هي مكية باتفاق العلماء ، ليس كما ظنه أصحاب مالك والشافعي أنها من آخر القرآن نزولا ، وإنما سورة المائدة هي المتأخرة ، وقد قال الله فيها : ( أحل لكم الطيبات ) فعلم أن عدم التحريم المذكور في سورة الأنعام ليس تحليلا ، وإنما هو عفو ، فتحريم رسول الله رافع للعفو ليس نسخا للقرآن .

              لكن لم يوافق أهل الحديث الكوفيين على جميع ما حرموه ، بل أحلوا الخيل لصحة السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحليلها يوم خيبر ، وبأنهم ذبحوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا وأكلوا لحمه ، وأحلوا الضب لصحة السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه قال : لا أحرمه وبأنه أكل على مائدته وهو ينظر ولم ينكر على من أكله ، وغير ذلك مما جاءت فيه الرخصة .

              [ ص: 26 ] فنقصوا عما حرمه أهل الكوفة من الأطعمة ، كما زادوا على أهل المدينة في الأشربة ؛ لأن النصوص الدالة على تحريم الأشربة المسكرة أكثر من النصوص الدالة على تحريم الأطعمة .

              ولأهل المدينة سلف من الصحابة والتابعين في استحلال ما أحلوه أكثر من سلف أهل الكوفة في استحلال المسكر ، والمفاسد الناشئة من المسكر أعظم من مفاسد خبائث الأطعمة ، ولهذا سميت الخمر " أم الخبائث " كما سماها عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وغيره ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجلد شاربها ، وفعله هو وخلفاؤه ، وأجمع عليه العلماء ، دون المحرمات من الأطعمة فإنه لم [ يحد ] فيها أحد من أهل العلم إلا ما بلغنا عن الحسن البصري ، بل قد أمر صلى الله عليه وسلم بقتل شارب الخمر في الثالثة أو الرابعة ، وإن كان الجمهور على أنه منسوخ . ونهى النبي صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه - عن تخليل الخمر وأمر بشق ظروفها وكسر دنانها ، وإن كان قد اختلفت الرواية عن أحمد : هل هذا باق أو منسوخ ؟

              التالي السابق


              الخدمات العلمية