الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                          صفحة جزء
                                                                          باب بيان أنواع المياه وأحكامها وما يتبعها وباب الشيء ما توصل إليه منه فباب المياه ما توصل منه إلى الوقوف على مسائلها ( المياه ) جمع ماء باعتبار ما يتنوع إليه شرعا ( ثلاثة ) بالاستقراء ( طهور ) وهو أشرفها .

                                                                          قال ثعلب : طهور بفتح الطاء : الطاهر في ذاته المطهر لغيره انتهى ، فهو من الأسماء المتعدية ، قال تعالى : { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } وقال صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر { هو الطهور ماؤه الحل ميتته } ولو لم يكن متعديا بمعنى المطهر لم يكن ذلك جوابا للقوم حين سألوه عن الوضوء به ، إذ ليس كل طاهر مطهرا ، ولا ينافيه : خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء .

                                                                          فقد جمع الوصفين كونه نزها لا يتنجس بغيره وأنه يطهر غيره ( يرفع الحدث ) أي لا يرفع الحدث غيره بقرينة المقام ( وهو ) أي الحدث ( ما ) أي معنى يقوم بالبدن ( أوجب وضوءا ) أي جعله الشرع سببا لوجوبه ، ويوصف بالأصغر ( أو ) أوجب غسلا ، ويوصف بالأكبر وليس نجاسة . فلا تفسد الصلاة بحمل محدث ، والمحدث من لزمه لنحو صلاة وضوء ، أو غسل أو تيمم .

                                                                          فالطاهر ضد المحدث والنجس ، والمحدث ليس نجسا ولا طاهرا ( إلا حدث رجل ) إلا امرأة وصبي .

                                                                          ( و ) إلا حدث ( خنثى ) مشكل بالغ احتياطيا فلا يرتفع ( ب ) ماء ( قليل ) لا يبلغ قلتين ( خلت به امرأة ) مكلفة ( ولو كانت ) ( كافرة ) ; لأنها أدنى من المسلمة وأبعد من [ ص: 15 ] الطهارة ولعموم الخبر الآتي ( لطهارة كاملة ) لا بعضها ( عن حدث ) بحيث تكون خلوتها باستعمال ( كخلوة نكاح ) فلا أثر إذا شاهدها مميز أو كافر أو امرأة أو قن ( تعبدا ) أي قلنا ذلك تعبدا ، لأمر الشارع به ، وعدم عقل معناه قال الحكم بن عمرو الغفاري ( { نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة . } ) رواه الخمسة إلا أن النسائي وابن ماجه قالا : " وضوء المرأة " وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان واحتج به أحمد في رواية الأثرم ، وقال في رواية أبي طالب أكثر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون ذلك ، وهو لا يقتضيه القياس ، فيكون توقيفا ، وممن كرهه : عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن سرجس ، وخصص بالخلوة لقول عبد الله بن سرجس " توضأ أنت هاهنا وهي هاهنا فإذا خلت به فلا تقربنه " وبالقليل لأن النجاسة لا تؤثر في الكثير ، فهذا أولى ، ولأن الغالب على النساء أن يتطهرن من القليل .

                                                                          وعلم مما تقدم : أنه لا أثر لخلوتها بالتراب ، ولا بالماء لإزالة خبث ، أو طهر مستحب ، ولا لخلوة خنثى مشكل ، ولا لغير بالغة ، ولا لبعض طهارة ( ويزيل ) الماء الطهور ، عطف على يرفع ، أي ويزيل ( الخبث الطارئ ) على محل طاهر قبله غيره ، لما يأتي في إزالة النجاسة ، وعلم منه أن نجس العين لا يمكن تطهيره ( وهو ) أي الماء الطهور الماء ( الباقي على خلقته ) أي صفته ، وهي الطهورية ، أي هو الماء المطلق الذي لم يقيد بوصف دون آخر ، وهو ماء البحر والنهر ، ونبع الأرض من عين أو بئر ، وما نزل من السماء من مطر وثلج وبرد ، عذبا كان أو مالحا باردا أو حارا .

                                                                          ( ولو تصاعد ) الماء ( ثم قطر كبخار الحمامات ) لأنه لم يطرأ عليه ما يزيل طهوريته ( أو استهلك فيه ) أي الطهور ماء ( يسير مستعمل ، أو ) استهلك فيه ( مائع طاهر ) كلبن ( ولو ) كان استهلاكه فيه ( لعدم كفاية ) الطهور للطهارة قبله ( ولم يغيره ) ما استهلك فيه إن كان مخالفا له في الصفة أو الفرض ، فيجوز استعماله وتصح الطهارة به .

                                                                          والخلاف المشار إليه في ذلك ، لا في سلب الطهورية كما ذكره ابن قندس ، خلافا للرعايتين والفروع ، وتبعهم في شرحه ، فإن غيره سلب الطهورية ، ويأتي توضيحه ( أو استعمل ) الطهور ( في طهارة لم تجب ) كتجديد وغسل جمعة ( أو ) استعمل في ( غسل كافر ) ولو ذمية من حيض أو نفاس لحل وطء لمسلم ، فلا يسلبه الطهورية ، لأنه لم يرفع حدثا ، والكافر ليس من أهل النية ( أو [ ص: 16 ] غسل به ) أي الطهور ولو يسيرا ( رأس بدلا عن مسح ) في وضوء فلا يسلبه الطهورية لعدم وجوب غسله في الوضوء ( والمتغير بمحل تطهير ) عطف على الباقي على خلقته ، ذكره الحجاوي في حاشية التنقيح .

                                                                          فإذا كان على العضو طاهر ، كزعفران وعجين وتغير به الماء وقت غسله لم يمنع حصول الطهارة به ، لأنه في محل التطهير كتغيير الماء الذي تزال به النجاسة في محلها .

                                                                          ( و ) المتغير ( بما يأتي ) ذكره ( فيما كره ) من الماء .

                                                                          ( و ) في ( ما لا يكره ) منه ثم بين المكروه بقوله ( وكره ) بالبناء للمجهول ( منه ) أي من الطهور ( ماء زمزم في إزالة خبث ) تعظيما له .

                                                                          ولا يكره الوضوء منه ولا الغسل على المذهب ، ويأتي في الوقف : لو سبل ماء للشرب لم يجز الوضوء به ، ولا يكره ما جرى على الكعبة في ظاهر كلامهم .

                                                                          ( و ) كره منه أيضا ( ماء بئر بمقبرة ) بتثليث الباء مع فتح الميم ، وبفتح الباء مع كسر الميم ، قال في الفروع في الأطعمة : وكره أحمد ماء بئر بين القبور ، وشوكها وبقلها ، قال ابن عقيل : كماء سمد بنجس والجلالة انتهى .

                                                                          فظاهره يكره استعمال مائها في أكل وشرب وطهارة وغيرها .

                                                                          ( و ) كره منه أيضا ( ما اشتد حره واشتد برده ) لأذاه ومنعه كمال الطهارة .

                                                                          ( و ) كره منه أيضا ( مسخن بنجاسة ) مطلقا ظن وصولها إليه أو احتمل أو لا ، حصينا كان الحائل أو غير حصين ولو برد .

                                                                          ويكره إيقاد النجس وإن علم وصول النجاسة إليه ، وكان يسيرا فنجس ( إن لم يحتج إليه ) فإن لم يجد غيره تعين ، وكذا يقال في كل مكروه ، إذ لا يترك واجب لشبهة ( أو ) مسخن ( بمغصوب ) ونحوه ، وكذا ماء بئر في موضع غصب ، أو حفرها أو أجرته غصب . فيكره الماء لأنه أثر محرم .

                                                                          ( و ) يكره أيضا ( متغير بما لا يخالطه ) أي الماء ( من عود قماري ) بفتح القاف ، نسبة إلى بلدة قمار قاله في شرحه .

                                                                          وقال في المطلع : بكسر القاف ، منسوب إلى قمار موضع ببلاد الهند ، عن أبي عبيد البكري ( أو قطع كافور أو دهن ) كزيت وسمن لأنه لا يمازج الماء ، وكراهته خروجا من الخلاف قال في الشرح : وفي معناه ما تغير بالقطران والزفت والشمع ، لأن فيه دهنية يتغير بها الماء ( أو ) أي وكره أيضا متغير ( بمخالط أصله الماء ) كالملح المائي ، لأنه منعقد من الماء ، بخلاف المعدني فيسلبه الطهورية .

                                                                          و ( لا ) يكره متغير ( بما يشق صونه ) أي الماء ( عنه ، كطحلب ) بضم اللام وفتحها ، وهو خضرة تعلو الماء المزمن ، أي الراكد بسبب [ ص: 17 ] الشمس ( وورق شجر ) سقط فيه بغير فعل آدمي ، لمشقة التحرز منه ، وكذا ما بعث في الماء ، والسمك ونحوه ، والجراد ونحوه ، وما تلقيه الرياح والسيول ، وما تغير عمره أو مقره . فكله غير مكروه للمشقة .

                                                                          ( و ) كذا ما تغير بطول ( مكث ) في أرض وآنية من أدم أو نحاس أو غيرهما ، لمشقة الاحتراز منه .

                                                                          وروي أنه صلى الله عليه وسلم { توضأ من بئر كأن ماءه نقاعة الحناء } .

                                                                          ( و ) لا يكره أيضا متغير ب ( ريح ) تحمل الرائحة الخبيثة إلى الطهور ، فيتروح بها للمشقة ( ولا ) يكره ( ماء البحر ) الملح ، لما تقدم من الخبر .

                                                                          ( و ) لا ماء ( الحمام ) لأن الصحابة رضي الله عنهم دخلوا الحمام ورخصوا فيه ومن نقل عنهم الكراهة علل بخوف مشاهدة العورة ، أو قصد التنعم به ذكره في المبدع ، و ( لا ) يكره ( مسخن بشمس ) وما استدل به للكراهة من النهي لم يصح . كما أوضحته في شرح الإقناع ( أو ) أي ولا يكره مسخن ( بطاهر ) إن لم يشتد حره .

                                                                          وروى الدارقطني بإسناد صحيح عن عمر " أنه كان يسخن له ماء في قمقم فيغتسل به " وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر " أنه كان يغتسل بالحميم " ( ولا يباح غير بئر الناقة من ) آبار ديار ( ثمود ) قوم صالح ، لحديث ابن عمر { أن الناس نزلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم على الحجر أرض ثمود ، فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا من آبارها ، ويعلفوا الإبل العجين ، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة } متفق عليه .

                                                                          وظاهره منع الطهارة به كالمغصوب ، وبئر الناقة هي البئر الكبيرة التي يردها الحجاج في هذه الأزمنة ، قاله الشيخ تقي الدين لم نجدها .

                                                                          التالي السابق


                                                                          الخدمات العلمية