الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 8 ] ( مقدمة ) المقدمة في الأصل : صفة ، ثم استعملوها اسما لكل ما وجد فيه التقديم ، كمقدمة الجيش والكتاب ، ومقدمة الدليل والقياس ، وهي القضية التي تنتج ذلك مع قضية أخرى ، نحو كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام . ونحو ذلك . والعالم مؤلف وكل مؤلف محدث ، ونحو ذلك . ثم إن مقدمة العلم هي اسم لما تقدم أمامه ، ولما تتوقف عليه مسائله كمعرفة حدوده وغايته وموضوعه ، ومقدمة الكتاب لطائفة من كلامه تقدم أمام المقصود ، لارتباط له بها ، وانتفاع بها فيه . سواء توقف عليها العلم أو لا . وهي بكسر الدال من قدم بمعنى تقدم . قال الله سبحانه وتعالى ( { لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } ) أي : لا تتقدموا . وبفتحها ، لأن صاحب الكتاب أو أمير الجيش قدمها ، ومنع بعض العلماء الكسر . وبعضهم اقتصر عليه .

ولما كان كل علم لا يتميز في نفسه عن بقية العلوم إلا بتميز موضوعه . وكان موضوع أصول الفقه : أخص من مطلق الموضوع . وكان العلم بالخاص مسبوقا بالعلم العام : بدأ بتعريف مطلق الموضوع بقوله ( موضوع كل علم ) شرعيا كان أو عقليا ( ما ) أي الشيء الذي ( يبحث فيه ) أي في ذلك العلم ( عن عوارضه ) أي عوارض موضوعه ( الذاتية ) أي الأحوال العارضة للذات ، دون العوارض اللاحقة لأمر خارج عن الذات . ومسائل كل علم : معرفة الأحوال العارضة لذات موضوع ذلك العلم . فموضوع علم الطب مثلا : هو بدن الإنسان ، لأنه يبحث فيه عن الأمراض اللاحقة له ، ومسائله : هي معرفة تلك الأمراض .

وموضوع علم النحو : الكلمات ، فإنه يبحث فيه عن أحوالها من حيث الإعراب والبناء . ومسائله : هي معرفة الإعراب والبناء ، وموضوع علم الفرائض : التركات ، فإنه يبحث فيه من حيث قسمتها ، ومسائله : هي معرفة حكم قسمتها ، والعلم بموضوع علم ليس بداخل في حقيقة ذلك العلم كما قلنا في بدن الإنسان والكلمات والتركات . إذا علمت ذلك : فالعوارض الذاتية هي التي تلحق الشيء لما هو هو ، أي [ ص: 9 ] لذاته ، كالتعجب اللاحق لذات الإنسان ، أو تلحق الشيء لجزئه ، كالحركة بالإرادة اللاحقة للإنسان بواسطة أنه حيوان ، أو تلحقه بواسطة أمر خارج عن المعروض مساو للمعروض ، كالضحك العارض للإنسان بواسطة التعجب . وتفصيل ذلك : أن العارض إما أن يكون لذات الشيء ، أو لجزئه ، أو لأمر خارج عنه .

والأمر الخارج : إما مساو للمعروض ، أو أعم منه ، أو أخص ، أو مباين . أما الثلاثة الأول - وهي العارض لذات المعروض ، والعارض لجزئه ، والعارض المساوي - : فتسمى أعراضا ذاتية ، لاستنادها إلى ذات المعروض . أما العارض للذات : فظاهر . وأما العارض للجزء : فلأن الجزء داخل في الذات ، والمستند إلى ما في الذات مستند إلى الذات في الجملة . وأما العارض للأمر المساوي : فلأن المساوي يكون مستندا إلى ذات المعروض ، والعارض مستند إلى المساوي والمستند إلى المستند إلى الشيء مستند إلى ذلك الشيء ، فيكون العارض أيضا مستندا إلى الذات . والثلاثة الأخيرة العارضة لأمر خارج غير مساو للمعروض : تسمى أعراضا غريبة ; لما فيها من الغرابة بالقياس إلى ذات المعروض . ثم تارة يكون الأمر الخارج أعم من المعروض كالحركة اللاحقة للأبيض بواسطة أنه جسم ، وهو أعم من الأبيض وغيره . وتارة يكون أخص كالضحك العارض للحيوان بواسطة أنه إنسان ، وهو أخص من الحيوان . وتارة يكون مباينا للمعروض كالحرارة العارضة للماء بواسطة النار .

إذا علمت ذلك ( فموضوع ذا ) أي هذا العلم الذي هو أصول الفقه ( الأدلة الموصلة إلى الفقه ) من الكتاب والسنة ، والإجماع والقياس ، ونحوها ; لأنه يبحث فيه عن العوارض اللاحقة لها من كونها عامة أو خاصة ، أو مطلقة أو مقيدة ، أو مجملة ، أو مبينة ، أو ظاهرة أو نصا ، أو منطوقة ، أو مفهومة ، وكون اللفظ أمرا أو نهيا ، ونحو ذلك من اختلاف مراتبها ، وكيفية الاستدلال بها ، ومعرفة هذه الأشياء : هي مسائل أصول الفقه .

وموضوع علم الفقه : أفعال العباد من حيث تعلق الأحكام الشرعية بها . [ ص: 10 ] ومسائله : معرفة أحكامها من واجب وحرام ، ومستحب ومكروه ومباح .

التالي السابق


الخدمات العلمية