الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
في انقسام الحقوق إلى المتفاوت والمتساوي والمختلف فيه اعلم أن حقوق الرب وحقوق عباده أقسام : أحدها متساوي ، والثاني متفاوت ، والثالث مختلف في تساويه وتفاوته ; وسأذكر لذلك أمثلة في فصول ترشد إلى نظائرها .

الفصل الأول : في تقديم حقوق الله بعضها على بعض عند تعذر جمعها وعند تيسره لتفاوت مصالحها وله أمثلة : منها تقديم الصلوات المفروضات على الصلوات المندوبات ، ومنها تقديم الطاعات الواجبات في أواخر الأوقات على الطاعات المندوبات ، ومنها تأخير الظهر للإبراد ، ومنها تقديم الصلاة المقضية على الصلاة المؤداة إذا اتسع وقت المؤداة ، ومنها تقديم الصلاة المؤداة على الصلاة المقضية إذا ضاق وقت المؤداة عند الشافعي رحمه الله ، لئلا تفوت مصلحة الأداء في الصلاتين .

ومنها الترتيب في الصلوات الفائتات ، ومنها تقديم النوافل المؤقتة التي شرعت فيها الجماعة كالعيدين والكسوفين على الرواتب ، ومنها [ ص: 169 ] تقديم الرواتب على النوافل المبتدآت ، ومنها تقديم الوتر وركعتي الفجر على سائر الرواتب ، والأصح تقديم الوتر على ركعتي الفجر ، ومنها تقديم الزكاة على سائر الصدقات المندوبات ، ومنها تقديم الصوم الواجب على المندوب ، ومنها تقديم فرض الحج والعمرة على مندوبيهما ، ومنها تقديم الإفراد على القران عند قوم ، وتقديم التمتع على الإفراد عند قوم ، وتقديم القران عليهما عند آخرين ، ومنها التقديم في جمع عرفة ، ومنها التأخير في جمع مزدلفة ، ومنها رمي جمرة العقبة بعد طلوع الشمس ، ومنها رمي سائر الجمرات بعد الزوال .

ومنها تأخير العشاء على قول ، ومنها الإتمام في سفر لا تبلغ مسيرته ثلاثة أيام ، ومنها تأخير الصيام في حق من يضره الصيام ، وفي تقديم ترتيب أركان الصلاة على الاقتداء في حق المزحوم قولان ، ومنها تقديم الكفارات على الوصايا المندوبات عند ضيق التركات ، ومنها أن المسافر إذا عرف أنه يجد الماء في آخر الوقت فتأخير الصلاة أفضل من المبادرة إليها بالتيمم ، وهاتان فضيلتان لا يمكن الجمع بينهما ، وإنما قدمنا التأخير لأنه راجع إلى رعاية الشروط وما رجع إلى رعاية الشروط والأركان أولى مما رجع إلى السنن والآداب ، ويدل على ذلك أن المبادر مخير بين المبادرة وتركها والقادر على الماء لا يتخير بينه وبين التيمم لشرفه وعلو رتبته ، ولو ظن وجود الماء في آخر الوقت فقولان : أحدهما يؤخر لما ذكرناه .

والثاني لا يؤخر لأن المبادرة فضيلة محققة فلا يؤخرها لفضيلة مظنونة ، وإن لم يظن ذلك فلا خلاف عند المراوزة أن المبادرة أولى إذ لا معارض لها ، والمبادرة إلى الصلاة في الانفراد أفضل من انتظار الجماعة في آخر الوقت ، لأن الجماعة ليست شرطا والذي قالوه ظاهر السنة .

وقد قال بعض العراقيين في انتظار الجماعة قولين ، ومنها أن من أراد التبرع بماء الطهارة على أفضل القربات قدم غسل الميت على غسل الجنب والحائض لأنه آخر عهد الميت ، والجنب والحائض [ ص: 170 ] يصبران إلى طهارة الماء ، ويقدم غسل النجاسة على غسل الحيض والجنابة وهو قريب من الجمع بين الحقوق ، لأن غسل النجاسة لا بدل له وغسل الحيض والجنابة له بدل وهو التيمم .

وفي تقديم غسل الميت على غسل النجاسة وجهان :

أحدهما : يقدم غسل الميت لأنه آخر عهده .

والثاني : يقدم غسل النجاسة إذ لا بد له وييمم الميت وفي غسل الحيض والجنابة أوجه ثالثها التسوية بينهما فتقرع بينهما ، فإن طلب أحدهما القسمة والآخر القرعة فمن يجاب ؟ وجهان ومنها تقديم غسل الجمعة والغسل من غسل الميت على سائر الأغسال المندوبات ، وأيهما أفضل فيه قولان ، ومنها أن العري عذر في ترك الجماعة غير مانع للصحة ، والانفراد فيه أفضل من الاجتماع على الجديد ، ويقدم ستر السوأتين على ستر الفخذين عند العجز ، فإن لم يجد إلا ما يكفي أحدهما ففي المقدم منهما اختلاف ، ولا خلاف في تقديم ستر النساء على ستر الرجال دفعا لأعظم المفسدتين ، ولو انحل إزار المصلي أو كشف الريح سوأته ، فإن تعذر رده بطلت صلاته لندرته وعظم المفسدة ، وإن رده قريبا لم تبطل ، وإن تكشف أو تحرف عن القبلة أو لاقى نجاسة يابسة فإن تعمد بطلت صلاته ، وإن لم يتعمد لم تبطل إلا أن يطول الزمان .

التالي السابق


الخدمات العلمية