الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                            كتاب البيوع

                                                                                                                                            باب ما أمر الله به ونهى عنه من المبايعات وسنن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه

                                                                                                                                            ( قال الشافعي ) قال الله - جل وعز - : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم [ النساء : 129 ] فلما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيوع تراضى بها المتبايعان استدللنا أن الله - جل وعز - أحل البيوع إلا ما حرم الله على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، أو ما كان في معناه .

                                                                                                                                            قال الماوردي : الأصل في إحلال البيوع :

                                                                                                                                            كتاب الله ، وسنة نبيه ، وإجماع الأمة .

                                                                                                                                            فأما الكتاب : فقوله سبحانه وتعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم [ النساء : 29 ] وقوله سبحانه : ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا [ البقرة : 275 ] وقوله سبحانه : ياأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه [ البقرة : 282 ] قال ابن عباس : نزلت في السلم . وقوله سبحانه ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [ البقرة : 198 ] .

                                                                                                                                            قال ابن عباس : نزلت في إباحة التجارة في مواسم الحج .

                                                                                                                                            أما السنة : فقد رويت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولا وفعلا :

                                                                                                                                            أما القول :

                                                                                                                                            فما روى الأعمش ، عن أبي وائل ، عن قيس بن أبي غرزة ، قال : كنا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسمى السماسرة ، فمر بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمانا باسم هو أحسن منه ، فقال : " يا معشر التجار إن البيع يحضره اللغو والحلف ، فشوبوه بالصدقة .

                                                                                                                                            [ ص: 4 ] وروي عن عبد الله بن عصمة ، أن حكيم بن حزام ، حدثه أنه قال : يا رسول الله إني أشتري بيوعا ، ما يحل لي منها ، وما يحرم ؟ قال : " إذا اشتريت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه ، ولا تبع ما ليس عندك " . فدل على إباحة ما عدا ذلك .

                                                                                                                                            وروى ابن أبي كثير ، عن أبي راشد ، عن عبد الرحمن بن شبل ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن التجار هم الفجار " . قيل : يا رسول الله أليس قد أحل الله البيع ؟ قال : " بلى ولكنهم يحدثون فيكذبون ، ويحلفون فيأثمون " .

                                                                                                                                            وروى يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا خير في التجارة إلا لمن لم يمدح بيعا ، ولم يذم شرى ، وكسب حلالا فأعطاه في حقه ، وعزل من ذلك الحلف " .

                                                                                                                                            وروى أبو عبيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " تسعة أعشار الرزق في التجارة ، والجزء الباقي في السبايا " ، قال أبو عبيد : السبايا : النتاج .

                                                                                                                                            وأما الفعل من بيوعه التي عقدها بنفسه فكثيرة لا تحصى عددا ، غير أن المنقول منها ما اختص بأحكام مستفادة ، فمن ذلك ، ما روى أبو الزبير ، عن جابر قال : اشترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من رجل من الأعراب حمل خبط ، فلما وجب البيع ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اختر " قال الأعرابي : عمرك الله بيعا .

                                                                                                                                            وروى سماك بن حرب عن سويد بن قيس قال : جلبت أنا ومخرمة العبدي بزا من هجر ، فأتينا به مكة ، فجاءنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاشترى منا سراويل ، ووزان يزن بالأجر ، فقال للوزان : " زن وأرجح " .

                                                                                                                                            [ ص: 5 ] وروى عطاء ، عن جابر قال : كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر على جمل ، إنما هو في آخر القوم ، فمر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : " أمعك قضيب ؟ " قلت : نعم ، فأعطيته ، فنخسه وزجره ، فكان في أول القوم ، فقال : " بعنيه " قلت : هو لك يا رسول الله ، قال : " بل بعنيه " . قال : " قد أخذته بأربعة دنانير ، ولك ظهره حتى تأتي المدينة " ، فلما قدمنا المدينة ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يا بلال اقضه وزده " . فأعطاه أربعة دنانير وقيراطا زاده ، قال جابر : لا تفارقني زيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                            وروى أبو بكر الحنفي ، عن أنس بن مالك ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باع لرجل من الأنصار شكا فقرا قدحا وحلسا بدرهمين فيمن يزيد .

                                                                                                                                            وأما إجماع الأمة : فظاهر فيهم من غير إنكار بجملته ، وإن اختلفوا في كيفيته وصفته ، حتى أن كبراء الصحابة ارتسموا به وندبوا نفوسهم له ، فروي أن أبا بكر - رضي الله عنه - كان تاجرا في البز ، وروي عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان تاجرا في الطعام والأقط .

                                                                                                                                            وروي عن عثمان - رضي الله عنه - أنه كان تاجرا في البر والبحر . وروي عن العباس - رضي الله عنه - أنه كان تاجرا في العطر .

                                                                                                                                            وعلى ذلك جرت أحوال الصحابة قبل الهجرة وبعدها ، فمنهم من تفرد بجنس منها ، ومنهم من جلب في جميع صنوفها كعثمان وعبد الرحمن - رضي الله عنهما - فدل مما ذكرنا أن البيع مباح .

                                                                                                                                            فصل : في تفسير قوله تعالى : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم [ النساء 29 ] أما قوله : لا تأكلوا فمعناه : لا تأخذوا ، فعبر عن الأخذ بالأكل : لأنه معظم ما يقصد بالأخذ ، كما قال تعالى : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما [ النساء : 10 ] أي : يأخذون .

                                                                                                                                            وأما قوله : أموالكم ففيه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه أراد مال كل إنسان في نفسه أن لا يأخذه فيصرفه في المحظورات .

                                                                                                                                            والثاني : أن معناه : لا يأخذ بعضكم مال بعض ، كما قال تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم [ النساء 29 ] أي : لا يقتل بعضكم بعضا .

                                                                                                                                            [ ص: 6 ] وأما قوله تعالى : بالباطل ففيه ثلاثة تأويلات :

                                                                                                                                            أحدها : أنه أراد أن يصرف في المحظورات .

                                                                                                                                            والثاني : أن المراد به أن لا يؤخذ بالانتهاب والغارات على عادتهم في الجاهلية .

                                                                                                                                            والثالث : أن المراد بالباطل التجارات الفاسدة المألوفة عندهم في بيوع الجاهلية .

                                                                                                                                            وأما قوله تعالى : إلا أن تكون تجارة . فلفظ ( إلا ) موضوع في اللغة للاستثناء ، ولكن اختلف الناس وأصحابنا معهم في المراد به في هذا الموضع على أربعة أقوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن ( إلا ) في هذا الموضوع لم يرد بها الاستثناء ، وإنما معناها : لكن . فيصير تقدير الآية : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ، ولكن كلوها تجارة عن تراض منكم ، كقوله تعالى : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ [ النساء 92 ] معناه : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا عمدا ولا خطأ ، لكن إن قتله خطأ ، فتحرير رقبة مؤمنة . وبهذا قال أبو إسحاق المروزي .

                                                                                                                                            والثاني : أن معنى : إلا : في هذا الموضع معنى : الواو ، فيكون تقدير الآية : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ، وكلوها تجارة عن تراض ، كقوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ الأنبياء 22 ] أي والله لفسدتا .

                                                                                                                                            وقول الشاعر :


                                                                                                                                            وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان

                                                                                                                                            أي والفرقدان أيضا سيفترقان ، ولو أراد الاستثناء لقال : إلا الفرقدين .

                                                                                                                                            والثالث : أن معنى إلا ، في هذا الموضع معنى الاستثناء ، غير أنه من مضمر دل عليه مظهر ، ليصح أن يكون استثناء من جنسه ، فيكون تقدير الكلام : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ولا بالتجارة ، إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ، وهذا قول من منع الاستثناء من غير جنسه ، وجعلوا ذلك كقوله تعالى : أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم [ المائدة : 1 ] وإنما معناه : أحلت لكم بهيمة الأنعام والصيد إلا أن تكونوا محرمين ، فيحرم عليكم الصيد .

                                                                                                                                            والرابع : أن ذلك استثناء من غير جنسه ، والدليل على جواز الاستثناء من غير جنسه - وهو أشبه بمذهب الشافعي - قوله تعالى : لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما [ مريم : 62 ] وليس السلام من جنس اللغو .

                                                                                                                                            [ ص: 7 ] وقال تعالى : فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس [ الحجر : 34 ] وليس إبليس من الملائكة .

                                                                                                                                            وقال تعالى : فإنهم عدو لي إلا رب العالمين [ الشعراء : 77 ] وتعالى الله أن يكون من جنس من استثنى منه .

                                                                                                                                            وقال الشاعر :


                                                                                                                                            وبلدة ليس بها أنيس     إلا اليعافير وإلا العيس

                                                                                                                                            والأنيس : الناس ، واليعافير : حمير الوحش ، وقيل : الظباء واحدها يعفور مقلوب أعفر .

                                                                                                                                            والعيس : الإبل . واستثنى الحمير والإبل من جملة الناس .

                                                                                                                                            وقال النابغة الذبياني :


                                                                                                                                            وقفت فيها أصيلالا أسائلها     عيت جوابا ولا بالربع من أحد
                                                                                                                                            إلا أواري لأيا ما أبينها     والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد

                                                                                                                                            فذكر أنه لم يبق بالربع أحد من الناس يسأله إلا الأواري ، والعامة تقول : الأواري : هي المعالف .

                                                                                                                                            وقال العتبي : هي الحبال الممدودة يشد عليها الدواب ، وهو جمع واحده أورى .

                                                                                                                                            فصل : في تفسير قوله تعالى : وأحل الله البيع [ البقرة : 275 ] وذكر الشافعي معاني الآية مستوفاة جميعها في كتاب الأم بكلام وجيز ، فقال : احتمل إحلال الله تعالى البيع في هذه الآية معنيين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون أحل كل بيع تبايعه متبايعان جائزا الأمر فيما يتبايعانه عن تراض منهما ، وهذا أظهر معانيه .

                                                                                                                                            الثاني : أن يكون أحل البيع إذا كان مما لم ينه عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبين عن الله معنى ما أراد . فيكون هذا من الجمل التي أحكم فرضها في كتابه ، وبين كيف هي على لسان نبيه ، أو من العام الذي أريد به الخاص ، فبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أراد بإحلاله منه وما حرم ، أو يكون داخلا منهما ، أو من العام الذي أباحه إلا ما حرم على لسان نبيه منه وما في معناه - ثم [ ص: 8 ] قال : وأي هذه المعاني كان ، فقد ألزم الله خلقه بما فرض من طاعة رسوله ، وأن ما قيل عنه فعن الله قيل ، لأنه بكتاب الله قيل ، فهذا قول الشافعي في معنى الآية .

                                                                                                                                            وجملته : أن للشافعي في معنى الآية أربعة أقاويل :

                                                                                                                                            أحدها : أنها عامة ، وأن لفظها لفظ عموم يتناول إباحة كل بيع إلا ما خصه الدليل .

                                                                                                                                            ووجه ذلك هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نهى عن بياعات كانوا يستعملونها ، ولم يقصد إلى بيان الجائز منها ، وإنما قصد إلى بيان فاسدها منه ، فدل بذلك على أن الآية قد شملت إباحة البياعات كلها ، فاستثنى ما لا يجوز منها .

                                                                                                                                            فعلى هذا هل هي عموم أريد به العموم ؟ أو عموم أريد به الخصوص ؟ على قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنها عموم أريد به العموم ، وإن دخله دليل التخصيص .

                                                                                                                                            والثاني : أنها عموم أريد به الخصوص .

                                                                                                                                            والفرق بينهما من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : هو أن العموم المطلق الذي يجري على عمومه وإن دخله التخصيص ، ما يكون المراد باللفظ أكثر ، وما ليس بمراد باللفظ أقل ، والعموم الذي أريد به الخصوص ما يكون المراد باللفظ أقل وما ليس بمراد باللفظ أكثر .

                                                                                                                                            والفرق الثاني : أن البيان فيما أريد به الخصوص متقدم على اللفظ ، وفيما أريد به العموم تتأخر عن اللفظ أو مقترن به .

                                                                                                                                            وعلى كلا القولين يجوز الاستدلال بها على إباحة البيوع المختلف فيها ، ما لم يقم دليل التخصيص على إخراجها من عمومها .

                                                                                                                                            فصل : القول الثاني : أنها مجملة لا يعقل منها صحة بيع من فساده إلا ببيان من السنة ، ووجه ذلك : هو أن من البياعات ما يجوز ، ومنها ما لا يجوز ، وليس في الآية ما يتميز به الجائز من غير الجائز ، فاقتضى أن يكون من المجمل الذي لا نعقل المراد من ظاهره إلا ببيان يقترن به .

                                                                                                                                            فعلى هذا اختلف أصحابنا . هل هي مجملة بنفسها : لتعارض فيها أو هي مجملة بغيرها ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : مجملة بنفسها لتعارض فيها .

                                                                                                                                            وذلك أن قوله : وأحل الله البيع يقتضي جواز البيع متفاضلا ، وقوله : وحرم الربا يقتضي تحريم البيع متفاضلا ، فصار آخرها معارضا لأولها ، فوقع الإجمال فيها بنفسها .

                                                                                                                                            [ ص: 9 ] والوجه الثاني : أنها مجملة بغيرها ، وذلك أنها تقتضي جواز كل بيع من غرر ، ومعدوم ، وغيره . وقد وردت السنة بالمنع من بيع الغرر ، والملامسة ، والمنابذة ، وغير ذلك ، فصارت السنة معارضة لها ، فوقع الإجمال فيها بغيرها . فإذا ثبت أنها مجملة بنفسها على أحد الوجهين ، أو بغيرها على الوجه الثاني ، فقد اختلف أصحابنا :

                                                                                                                                            هل وقع الإجمال في صيغة لفظها وفي المعنى المراد بها ؟

                                                                                                                                            أو وقع الإجمال في المعنى المراد بها دون صيغة لفظها ؟

                                                                                                                                            على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الإجمال في المعنى دون اللفظ : لأن لفظ البيع ، اسم لغوي لم يرد من طريق الشرع ، ومعناه معقول ، إلا أنه لما قام بإزائه ما يعارضه تدافع العمومان ، ولم يتعين المراد منهما إلا بالسنة ، صارا مجملين لهذا المعنى ، لأن اللفظ مشكل المعنى .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن اللفظ مجمل ، والمعنى المراد به مشكل : لأنه لما لم يكن المراد باللفظ ما وقع عليه الاسم ، وصار مضمنا بشرائط لم تكن معقولة في اللغة ، خرج اللفظ بالشرائط عن موضوعه في اللغة إلى ما استقرت عليه شرائط الشرع ، وإن كان له في اللغة معان معقولة ، كما قلنا في الصلاة : إنها مجملة : لأنها مضمنة بشرائط لم تكن معقولة في اللغة ، وإن كان فيها معان معقولة في اللغة كالخضوع ، وما يقع فيها من الدعاء ، فكذلك لفظ البيع .

                                                                                                                                            وعلى كلا الوجهين لا يجوز الاستدلال بها على صحة بيع من فساده ، وإن دلت على إباحة البيع في أصله .

                                                                                                                                            وهذا فرق ما بين العموم والمجمل ، حيث جاز الاستدلال بظاهرة العموم ، ولم يجز الاستدلال بظاهر المجمل . والله أعلم .

                                                                                                                                            فصل : والقول الثالث : أنه داخل فيهما جميعا ، فيكون اللفظ عموما دخله الخصوص ، ومجملا لحقه التفسير ، لقيام الدلالة عليهما .

                                                                                                                                            فاختلف أصحابنا في وجه دخول ذلك فيهما على ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أن العموم في اللفظ والإجمال في المعنى .

                                                                                                                                            فيكون اللفظ عموما دخله الخصوص ، والمعنى مجملا لحقه التفسير .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن العموم في أول الآية ، وهو قوله تعالى : وأحل الله البيع والإجمال في آخرها ، وهو قوله تعالى : وحرم الربا فيكون أول الآية عاما دخله التخصيص ، وآخرها مجملا لحقه التفسير .

                                                                                                                                            [ ص: 10 ] والوجه الثالث : أن اللفظ كان مجملا ، فلما بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - صار عاما .

                                                                                                                                            فيكون داخلا في المجمل قبل البيان ، وفي العموم بعد البيان .

                                                                                                                                            فعلى هذا الوجه يجوز الاستدلال بظاهرها في البيوع المختلف فيها كالقول الأول .

                                                                                                                                            وعلى الوجهين الأولين ، لا يجوز الاستدلال بظاهرها في البيوع المختلف فيها كالقول الثاني .

                                                                                                                                            فصل : والقول الرابع : أنها تناولت بيعا معهودا ، ونزلت بعد أن أحل النبي - صلى الله عليه وسلم - بيوعا وحرم بيوعا ، وكان قوله : وأحل الله البيع يعني : الذي بينه الرسول من قبل ، وعرفه المسلمون منه ، فترتب الكتاب على السنة ، وتناولت الآية بيعا معهودا .

                                                                                                                                            وإنما كان كذلك : لأن الله تعالى قال : وأحل الله البيع فأدخل فيه الألف واللام ، وذلك يدخل في الكلام لأحد أمرين :

                                                                                                                                            إما لجنس ، أو معهود .

                                                                                                                                            فلما لم يكن الجنس مرادا : لخروج بعضه منه ، ثبت أن المعهود مراد .

                                                                                                                                            فعلى هذا ، لا يجوز الاستدلال بظاهرها على صحة بيع ولا فساده ، بل يرجع في حكم ما اختلف فيه إلى الاستدلال بما تقدمها من السنة التي عرف بها البيوع الصحيحة من الفاسدة .

                                                                                                                                            وإذا كان كذلك صار الفرق بينه وبين المجمل من وجه واحد . وبينه وبين العموم من وجهين .

                                                                                                                                            فأما الوجه الذي يقع به الفرق بينه وبين المجمل :

                                                                                                                                            فهو أن بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما نهى عنه من البيوع وأمر به سابق للآية .

                                                                                                                                            وبيان المجمل مقترن باللفظ ، أو متأخر عنه على مذهب من يجوز تأخير البيان ، فافترقا من هذا الوجه .

                                                                                                                                            أما الوجهان اللذان يقع بهما الفرق بينه وبين العموم :

                                                                                                                                            فأحدهما : ما مضى من تقديم البيان في المعهود ، واقتران بيان التخصيص بالعموم .

                                                                                                                                            والثاني : جواز الاستدلال بظاهر العموم فيما اختلف فيه من البيوع ، وفساد الاستدلال بظاهر المعهود فيما اختلف فيه من البيوع .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية