الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
[ ص: 122 ] فصل ( في فضل الجمع بين الحديث وفقهه وكراهة طلب الغريب والضعيف منه ) .

قال أحمد بن الحسن الترمذي : سمعت أبا عبد الله يقول : إذا كان يعرف الحديث ويكون معه فقه أحب إلي من حفظ الحديث لا يكون معه فقه .

وقال الأثرم سأل رجل أبا عبد الله عن حديث فقال أبو عبد الله : الله المستعان تركوا العلم وأقبلوا على الغرائب ، ما أقل الفقه فيهم .

وقال الحسن بن محمد سمعت أحمد بن حنبل سئل عن أحاديث غرائب فقال : شيء غريب أي شيء يرجى به قال : يطلب الرجل ما يزيد في أمر دينه ما ينفعه .

وقال في رواية أبي داود : يطلبون حديثا من ثلاثين وجها أحاديث ضعيفة قال : شيء لا ينتفعون به .

ونحو هذا الكلام قال أيضا : شر الحديث الغرائب التي لا يعمل بها ولا يعتمد عليها وقال إبراهيم النخعي : كانوا يكرهون غريب الحديث ذكره الخلال .

وروى أحمد عن الربيع بن خيثم قال : إن من الحديث حديثا له ظلمة كظلمة الليل تنكره ، وإن من الحديث حديثا له ضوء كضوء النهار تعرفه .

وقال علي بن الحسين زين العابدين : العلم ما تواطأت عليه الألسن .

وقال مالك : شر العلم الغريب ، وخير العلم الظاهر الذي قد رآه الناس وقال أبو يوسف القاضي : من طلب الدين بالكلام تزندق ، ومن طلب غريب الحديث كذب ، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس ، وعن مالك مثله وقال ابن المبارك : لنا في صحيح الحديث شغل عن سقيمه وقال ابن مهدي : لا ينبغي للرجل أن يشغل نفسه بكتابة الحديث الضعيف ، فأقل ما في ذلك أن يفوته من الصحيح بقدره .

وقال ابن الجوزي قال أحمد بن حنبل : الاشتغال بالأخبار القديمة يقطع عن العلم الذي فرض علينا طلبه .

وقال مالك : ما أكثر أحد من الحديث [ ص: 123 ] فأنجح ، قال ابن الجوزي : وإنما الإشارة إلى ما ذكرت من التشاغل بكثرة الطرق والغرائب فيفوت الفقه .

وذكر كلاما كثيرا إلى أن قال : وقد أوغل خلق من المتأخرين في كتابة طرق المنقولات ، فشغلهم عن معرفة الواجبات ، حتى إن أحدهم يسأل عن أركان الصلاة فلا يدري ، لا بل قد أثر هذا في القدماء ، ثم روى بإسناده أن امرأة وقفت على مجلس فيه يحيى بن معين وأبو خيثمة وخلف بن سالم في جماعة يتذاكرون الحديث ، فسألتهم عن الحائض تغسل الموتى وكانت غاسلة ، فلم يجبها منهم أحد ، وجعل بعضهم ينظر إلى بعض ، فأقبل أبو ثور فقالوا لها : عليك بالمقبل ، فسألته فقال : نعم تغسل الميت لحديث عائشة رضي الله عنها { أما إن حيضتك ليست في يدك } ولقولها { : كنت أفرق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالماء وأنا حائض } قال أبو ثور : فإذا فرقت رأس الحي فالميت به أولى ، قالوا : نعم رواه فلان وحدثنا به فلان ونعرفه من طريق كذا ، وخاضوا في الطرق والروايات فقالت المرأة : فأين كنتم إلى الآن .

قال : وقد كان بعض أكابرهم يستحي من رد الفتيا فيفتي بما لا يحسن ذكره حتى إن امرأة سألت علي بن داود وفي مجلسه نحو ألف رجل فقالت : إني حلفت بصدقة إزاري ؟ فقال : بكم اشتريته فقالت : باثنين وعشرين درهما قال : صومي اثنين وعشرين يوما ، فلما ذهبت جعل يقول آه غلطنا والله ، أمرناها بكفارة الظهار ، حكاه إبراهيم الحربي .

ثم روى بإسناده عن أبي زرعة قال : كتب إلى أبي ثور لم يزل هذا الأمر في أصحابك حتى شغلهم عنه إحصاء عدد رواة { من كذب علي متعمدا } فغلبهم هؤلاء القوم عليه قال ابن الجوزي في ( صيد الخاطر ) : فهو كما قال الحطيئة :

زوامل للأخبار لا علم عندها بمتقنها إلا كعلم الأباعر     لعمرك ما يدري البعير إذا غدا
بأوساقه أو راح ما في الغرائر

ثم ذكر العلوم وقال : إن الفقه عليه مدار العلوم ، فإن اتسع الزمان [ ص: 124 ] للتزيد من العلم فليكن من الفقه .

فإنه الأنفع وقال فيه : ولقد أدركنا في زماننا من قرأ من اللغة أحمالا فحضر بعض المتفقهة فسأله عن الحديث المعروف : { لو طعنت في فخذها أجزأك } فقال : هذا للمبالغة ، فقال له الصبي : أليس هذا في ذكاة غير المقدور عليه ؟ ففكر الشيخ ساعة ثم قال : صدقت .

وأدركنا من قرأ الحديث ستين سنة فدخل عليه رجل فسأله عن مسألة في الصلاة فلم يدر ما يقول ؟ وأدركنا من برع في علوم الفقه فكان إذا سئل عن حديث لا يدري ما يقول ؟ وأدركنا من برع في علم التفسير فقال له رجل يوما : إني أدركت ركعة من صلاة الجمعة فأضفت إليها أخرى فما تقول ؟ فسبه ولامه على تخلفه ولم يدر ما الجواب ، وأدركنا من برع في علوم القراءات فكان إذا سئل عن مسألة يقول : عليك بفلان .

هذه كلها محن قبيحة ، فلما رأيت في الصبا أن كل من برع من أولئك في فنه ما استقصى ، وإنما عوقته فضوله عن المهم ، وما بلغ الغاية رأيت أن أخذ المهم من كل علم هو المهم ، فإنه من أقبح الأشياء أن يطلب المحدث علو الإسناد وحسن التصانيف ، فيقرأ المصنفات الكبار ويطلب الأسانيد العوالي ويكتب ، فيذهب العمر ويرجع كما كان ، ليس عنده إلا أجزاء مصححة لا يدري ما فيها وقد سهر وتعب .


وإذا ساءلته عن علمه     قال علمي يا خليلي في سفط
في كراريس جياد أحكمت     وبخط أي خط أي خط
وإذا ساءلته عن مشكل     حك لحييه جميعا وامتخط

ويتفقه صبي صغير فيفتي في مسألة عجز ذلك الشيخ عنها ، وإنما أشرح هذه الأشياء للتعليم ، انتهى كلامه .

ولأبي داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا { العلم ثلاثة وما سوى [ ص: 125 ] ذلك فهو فضل : آية محكمة ، أو سنة قائمة ، أو فريضة عادلة } وللترمذي وقال : حسن غريب عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : يا بني { إن قدرت أن تصبح وتمسي ، وليس في قلبك غش لأحد فافعل ثم قال : يا بني وذلك من سنتي من أحيا سنتي فقد أحياني ، ومن أحياني كان معي في الجنة } . وقال الشافعي ليونس بن عبد الأعلى : عليك بالفقه فإنه كالتفاح الشامي يحمل من عامه .

وقال ابن الجوزي في كتاب العلم : الفقه عمدة العلوم ، وأملى الشافعي على مصعب بن عبد الله بن الزبير أشعار هذيل ووقائعها وأيامها حفظا ، فقال له : يا أبا عبد الله أين أنت بهذا الذهن عن الفقه ؟ فقال إياه أردت وقال محمد بن الحسن : كان أبو حنيفة يحثنا على الفقه ، ونهانا عن الكلام وكان يقول : لعن الله عمرو بن عبيد لقد فتح للناس الطريق إلى الكلام فيما لا يعنيهم .

وقال الربيع : مر الشافعي بيوسف بن عمرو وهو يذكر شيئا من الحديث فقال : يا يوسف تريد تحفظ الحديث وتحفظ الفقه هيهات .

وقال صاحب المحيط من الحنفية : أفضل العلوم عند الجمهور بعد معرفة أصل الدين وعلم اليقين معرفة الفقه والأحكام الفاصلة بين الحلال والحرام .

وروى الحاكم في تاريخه عن عبد العزيز بن يحيى قال : قال لنا سفيان بن عيينة : يا أصحاب الحديث تعلموا معاني الحديث فإني تعلمت معاني الحديث ثلاثين سنة ، قال : فتركوه وقالوا : عمرو بن دينار عمن ؟

وقال أبو حيان النحوي المتأخر المشهور في أثناء كلام له : وأما إن صاحب تناتيف وينظر في علوم كثيرة ، فهذا لا يمكن أن يبلغ الإمامة في شيء منها ، وقد قال العقلاء : ازدحام العلوم مضلة للمفهوم ، ولذلك تجد من بلغ الإمامة من المتقدمين في علم من العلوم لا يكاد يشتغل بغيره ، ولا ينسب إلى غيره وقد نظمت أبياتا في شأن من ينهز بنفسه .

ويأخذ العلم من الصحف بفهمه :

يظن الغمر أن الكتب تهدي     أخا فهم لإدراك العلوم
وما يدري الجهول بأن فيها     غوامض حيرت عقل الفهيم
إذا رمت العلوم بغير شيخ     ضللت عن الصراط المستقيم [ ص: 126 ]
وتلتبس العلوم عليك حتى     تصير أضل من توما الحكيم

أشرت إلى قول بعضهم :

قال حمار الحكيم توما     لو أنصفوني لكنت أركب
لأنني جاهل بسيط     وصاحبي جاهل مركب

وقال بعضهم :

إذا لم تكن حافظا واعيا     فجمعك للكتب لا ينفع
وتحضر بالجهل في موضع     وعلمك في الكتب مستودع
ومن كان في عمره هكذا     يكن دهره القهقرى يرجع

ومن المشهور :

فدع عنك الكتابة لست منها     ولو سودت وجهك بالمداد
وللعلوم رجال يعرفون بها     وللدواوين كتاب وحساب

.

التالي السابق


الخدمات العلمية