الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 25 ] جماع أبواب سيرته -صلى الله عليه وسلم- في الهدايا والعطايا والإقطاعات

                                                                                                                                                                                                                              الباب الأول في سيرته -صلى الله عليه وسلم- في الهدية

                                                                                                                                                                                                                              وفيه أنواع :

                                                                                                                                                                                                                              الأول : في أمره صلى الله عليه وسلم بالتهادي :

                                                                                                                                                                                                                              روى إبراهيم الحربي وأبو بكر أحمد بن أبي عاصم في (كتاب الأموال) عن أبي هريرة- رضي الله عنه قال- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الهدية تذهب وحر الصدر .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : في قبوله صلى الله عليه وسلم الهدية ولو قلت وإثابته عليها

                                                                                                                                                                                                                              روى الإمام أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد والترمذي وصححه ابن سعد عن أنس -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لو أهدي إلي كراع لقبلت ولو دعيت عليه لأجبت» وفي لفظ «إذا دعيت إلى ذراع» وفي لفظ «إلى كراع لأجبت» ورواه البخاري عن أبي هريرة .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد والطبراني برجال الصحيح وابن سعد عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال : كانت أمي وفي لفظ «أختي» تبعثني بالهدية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي لفظ : بالشيء فيقبلها مني .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الطبراني عنه قال : بعثتني أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطف من عنب فأكلته ، فقالت أمي : هل أتاك عبد الله بقطف ؟ قال : لا ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رآني قال : «غدر غدر» .

                                                                                                                                                                                                                              ورواه تمام بن محمد الرازي بلفظ : «بقطف من العنب ، فناولت منه فأكلته قبل أن أبلغه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما جئته مسح على رأسي ، وقال : «يا غدر!» .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 26 ] وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن سرجس -رضي الله تعالى عنه- قال : كانت أختي ربما تبعثني بالشيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم تطرقه إياه فيقبله مني .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد والبزار عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أن أعرابيا أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية فأثابه عليها ، قال ، أرضيت ؟ قال : لا ، فزاده ، قال : أرضيت ؟ قال : لا ، فزاده ، قال : أرضيت ؟ قال : نعم .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو يعلى برجال الصحيح وأبو بكر أحمد بن عمر بن أبي عاصم بسند صحيح عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنه- أن رجلا كان يلقب حمارا ، وكان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم العكة من السمن ، والعكة من العسل ، فإذا جاء صاحبها يتقاضاه جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقول : يا رسول الله ، أعط هذا ثمن متاعه فما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يتبسم ، أو يأمر به فيعطى .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الطبراني عن أم سلمة والإمام أحمد برجال الصحيح وأبو يعلى والبزار عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت أم سنبلة : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدية وقالت عائشة : أهدت أم سنبلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لبنا فلم تجده ، فقلت لها : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا أن نأكل من طعام الأعراب ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه ، فقال : «ما هذا معك يا أم سنبلة» فقالت : لبنا أهديته لك يا رسول الله ، فقال : «اسكبي أم سنبلة» فسكبت ، فنادى عائشة ، فناولها فشربت فقال : «اسكبي أم سنبلة» فسكبت فناولته رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب ، فقالت عائشة : فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم من لبن أسلم ، ثم قالت : قد كنت حدثت أنك قد نهيت عن طعام الأعراب ، فقال : يا عائشة ، هم ليسوا بأعراب ، هم أهل باديتنا ، ونحن أهل حاضرتهم ، وإذا دعوا أجابوا ، فليسوا بأعراب .

                                                                                                                                                                                                                              زاد الطبراني : وأعطاها كذا وكذا واديا وزودا ، فاشترى عبد الله بن حسن الوادي منهم .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الطبراني برجال الصحيح عن عياض بن عبد الله ، عن أبيه -رضي الله تعالى عنه- قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى له رجل عكة من عسل ، فقبلها وقال : احم شعبي ، فحماه ، وكتب له كتابا .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 27 ] وروى عبد الرزاق عن زيد بن أسلم مرسلا قال : لقي النبي صلى الله عليه وسلم امرأة تخرج من عند عائشة ، ومعها شيء تحمله ، فقال لها : طعاما هذا ؟ قالت : أهديت لعائشة ، فأبت أن تقبله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ألا قبلته منها مرة واحدة ؟ » قالت : يا رسول الله ، إنها محتاجة وإنها كانت أحوج إليه مني ، قال : «فهلا قبلته منها وأعطيتها خيرا» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد وابن حبان عن أنس -رضي الله تعالى عنه- أن رجلا من أهل البادية كان اسمه زاهر ، وكان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية ، فيجهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن زاهرا باديتنا ونحن حاضروه» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن أبي شيبة ، عن الربيع بنت معوذ -رضي الله تعالى عنها- قالت : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع من رطب وآخر من زغب فأكل منها ، وأعطاني ملء كفي حليا أو ذهبا ، وقال : تحلي به .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الطبراني بسند ضعيف عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أن الحجاج بن علاط السلمي أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه ذا الفقار ، ودحية أهدى له بغلة شهباء .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو يعلى عن أبي بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه- قال : نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلا فبعث له امرأة مع ابن لها بشاة ، فحلب ثم قال : انطلق به إلى أمك ، فشربت حتى رويت ، ثم جاء بشاة أخرى فحلب ثم شرب .

                                                                                                                                                                                                                              الثالث : في قبوله صلى الله عليه وسلم جرة من جماعة من ملوك أهل الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد والترمذي وحسنه عن علي -رضي الله تعالى عنه- قال أهدى كسرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل منه ، وأهدى له قيصر فقبل منه ، وأهدت له الملوك فقبل منهم .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن أبي شيبة والإمام أحمد عن أنس -رضي الله تعالى عنه- قال أهدى كسرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم جرة من من ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي أصحابه منها قطعة قطعة ، وأعطى جابرا قطعة ثم عاد فأعطاه قطعة أخرى ، فقال : يا رسول الله لقد أعطيتني ، فقال : هذا لبنات عبد الله ، يعني أخواته .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 28 ] وروى أحمد ومسلم عن البراء بن عازب قال : أهدى البدر لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة من سندس ، وكان ينهى عن الحرير ، فعجب الناس منها ، فقال : والذي نفسي بيده ، إن مناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الحارث بن أبي أسامة والبزار والطبراني وابن خزيمة وإبراهيم الحربي وأبو بكر أحمد بن عمر بن أبي شيبة بسند صحيح عن بريدة -رضي الله تعالى عنه- قال : أهدى أمير القبط إلى النبي صلى الله عليه وسلم جاريتين أختين ، وبغلة ، فكان يركب البغلة بالمدينة ، واتخذ إحدى الجاريتين لنفسه ، فولدت له إبراهيم ، ووهب الأخرى لحسان بن ثابت ، فولدت له محمدا .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البزار عن أنس -رضي الله تعالى عنه- أن ملك ذي يزن أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم جرة من من فقبلها .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الطبراني برجال ثقات عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت : أهدى المقوقس ملك القبط إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكحلة عيدان شامية ومرآة ومشطا .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البزار عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال : أهدى المقوقس لرسول الله صلى الله عليه وسلم قدح قوارير .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو الحسن بن الضحاك عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال : كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم حلة من حلة السيراء ، أهداها له فيروز .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البخاري عن أبي حميد الساعدي -رضي الله تعالى عنه- قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك وأهدى ملك أيلة للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء ، وكساه بردا ، وكتب له ببحرهم .

                                                                                                                                                                                                                              ورواه مسلم بلفظ : جاء رسول صاحب أيلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب ، وأهدى له بغلة بيضاء ، فكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأهدى له بردا .

                                                                                                                                                                                                                              وروى إبراهيم الحربي في كتاب هدي الأموال عن علي -رضي الله تعالى عنه- قال : أهدى يوحنا بن رؤبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو داود عن أنس -رضي الله [ ص: 29 ] عنه- أن ملك الروم أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبة من سندس ، كما تقدم في رواية أحمد ومسلم : وشيقة ، فليحرر .

                                                                                                                                                                                                                              الرابع : في رده صلى الله عليه وسلم الهدية لأمير ، وسيرته في هدية الأمراء ، وعدم قبوله الصدقة

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمامان الشافعي وأحمد والشيخان عن الصعب بن جثامة -رضي الله تعالى عنه- أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء ، أو بودان فرده عليه ، فلما رأى ما في وجهه ، وفي رواية : ما في وجهي من الكراهة ، قال : «ليس بنا رد عليك» وفي رواية «إنا لم نرده إليك إلا أنا حرم» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد عن عائشة -رضي الله تعالى عنه- أنه قد أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشيقة ظبي فردها ، ولم يأكلها .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الشيخان عن أبي حميد الساعدي -رضي الله تعالى عنه- قال : استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال له : ابن اللتبية ، فلما قدم ، قال : هذا لكم ، وهذا أهدي إلي ، قال : فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه ، فينظر أيهدى إليه أم لا ؟ والذي نفسي بيده ، لا يأخذ منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته ، إن كان بعيرا له رغاء ، أو بقرة لها خوار ، أو شاة تيعر ، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه : اللهم هل بلغت . ثلاثا .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن سعد عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- وعون بن عبد الله عن حبيب بن عبيد الرجي ، ورشيد بن مالك ، قالوا : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام أو غيره ، قال : صدقة أم هدية ؟ فإن قيل : من صدقة صرفها إلى أهل الصدقة ، أو قال : كلوا ولم يأكل ، وإن قيل : هدية أمر بها ، فوضعت ثم أهدى أهل الصدقة منها . ولفظ أبي هريرة : قبل الهدية ولم يقبل الصدقة .

                                                                                                                                                                                                                              وتقدمت قصة سلمان في أوائل الكتاب .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية