الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        [ ص: 186 ] كتاب التدبير

                                                                                                                                                                        فيه بابان

                                                                                                                                                                        الأول : في أركانه ، وهي ثلاثة : المحل ، والصيغة ، والأهل .

                                                                                                                                                                        أما المحل ، فمعلوم ، وأما الصيغة ، فينعقد التدبير بالصريح وبالكناية فالصريح كقوله : أنت حر بعد موتي ، أو أعتقتك ، أو حررتك بعد موتي ، أو إذا مت فأنت حر ، أو عتيق ، فإذا مات عتق ولو قال : دبرتك ، أو أنت مدبر ، فالنص أنه صريح ، ويعتق إذا مات السيد . ونص في الكتابة أن قوله : كاتبتك على كذا ، لا يكفي حتى يقول : فإذا أديت فأنت حر وينويه ، وفيهما طريقان ، فقيل : فيهما قولان : أحدهما : صريحان لاشتهارهما في معنييهما ، كالبيع والهبة .

                                                                                                                                                                        والثاني : كنايتان ، لخلوهما عن لفظ الحرية والعتق ، والمذهب تقرير النصين . والكناية كقوله : خليت سبيلك بعد موتي مع نية العتق . ولو قال : دبرت نصفك أو ربعك ، صح . وإذا مات ، عتق ذلك الجزء ، ولم يسر . ولو قال : دبرت يدك أو رجلك ، فهل يصح ويكون كله مدبرا ، أم يلغو ؟ وجهان . ونص في " الأم " أنه لو قال : أنت حر بعد موتي ولست بحر ، لا يصح التدبير ، كما لا يحصل العتق لو قال : أنت حر أو لست بحر ، ولا الطلاق إذا قال : أنت طالق ، أو لست بطالق .

                                                                                                                                                                        [ ص: 187 ] فرع

                                                                                                                                                                        يصح التدبير مطلقا ، وهو أن يعلق العتق بالموت بلا شرط . ومقيدا بشرط في الموت ، كقوله : إن قتلت ، أو مت من مرضي هذا ، أو حتف أنفي أو في سفري هذا ، أو في هذا الشهر ، أو في هذا البلد ، فأنت حر ، فإن مات على الصفة المذكورة ، عتق ، وإلا فلا . ولو قال : إذا مت ، ومضى شهر أو يوم فأنت حر ، أو قال : أنت حر بعد موتي بيوم ، عتق بعد موته بيوم ، ولا يحتاج إلى إنشاء إعتاق بعد موته . وهل هذا تدبير مطلق ، أم مقيد ، أم ليس بمطلق ولا مقيد ، وإنما هو تعليق ليس بتدبير ؟ فيه أوجه . الصحيح الثالث ، وبه قال الأكثرون ، منهم الشيخ أبو حامد ، وابن كج ، وابن الصباغ ، والروياني ، قالوا : متى علق العتق بصفة بعد الموت ، كقوله : إذا مت وشئت الحرية ، أو يشاء فلان ، أو إذا مت ثم دخلت فأنت حر ، أو أنت حر بعد موتي إذا خدمت ابني شهرا ، فكل ذلك ليس بتدبير ، بل تعليق ، ويجوز تعليق التدبير ، بأن يقول : إذا ، أو متى دخلت الدار ، فأنت حر بعد موتي ، أو أنت مدبر ، فإذا دخل ، صار مدبرا ، ولا يشترط الدخول في الحال ، لكن يشترط حصوله في حياة السيد ، كسائر الصفات المعلق عليها ، فإن مات السيد قبل الدخول ، فلا تدبير ، ولغا التعليق ، إلا أن يصرح فيقول : إذا دخلت الدار بعد موتي ، أو إذا مت ، ثم دخلت الدار فأنت حر ، فإنما يعتق حينئذ بالدخول بعد الموت . وللإمام احتمال في تعليق العتق بالدخول بعد الموت ، وذكر أن القاضي رمز إليه ، ولا تشترط المبادرة إليه بعد الموت ، بل متى دخل ، عتق . ولو قال : إذا مت ودخلت الدار فأنت حر ، قال البغوي : يشترط الدخول بعد الموت ، إلا أن يريد الدخول قبله . ولو قال : [ ص: 188 ] إذا مت فدخلت الدار ، أو إذا مت فأنت حر إن دخلت الدار ، فعلى ما سنذكره إن شاء الله تعالى في التعليق بالمشيئة .

                                                                                                                                                                        ولو قال الشريكان لعبدهما : إذا متنا فأنت حر ، لم يعتق حتى يموتا ، إما معا ، وإما مرتبا ، ثم إن ماتا معا ، فالحاصل عتق لحصول الصفة ، لا تدبير ; لأنه معلق بموته وموت غيره . والتدبير : أن يعلق بموت نفسه . وقيل : إنه عتق تدبير ، لاتصاله بالموت ، والصحيح الأول . وإن ماتا مرتبا ، فوجهان . أحدهما : ليس بتدبير ، والصحيح : أنه إذا مات أحدهما ، صار نصيب الثاني مدبرا ، لتعلق العتق بموته ، وكأنه قال : إذا مات شريكي فنصيبي منك مدبر ، ونصيب الميت لا يكون مدبرا ، وهو بين الموتين للورثة ، فلهم التصرف فيه بما لا يزيل الملك ، كالاستخدام والإجارة ، وليس لهم بيعه ; لأنه صار مستحق العتق بموت الشريك ، وكذا إذا قال : إن دخلت الدار بعد موتي ، فأنت حر ، فليس للوارث بيعه بعد الموت وقبل الدخول ، إذ ليس له إبطال تعليق الميت ، وإن كان للميت أن يبطله ، كما لو أوصى لرجل بشيء ومات ، ليس للوارث بيعه ، وإن كان للموصي أن يبيعه . وكذا من أعار ، له الرجوع في العارية .

                                                                                                                                                                        ولو قال : أعيروا داري لفلان بعد موتي شهرا ، وجب تنفيذ وصيته ، ولم يملك الوارث الرجوع عن هذه العارية ، هذا هو الصحيح . وفي الصورتين وجه أنه يجوز للورثة بيعه ، وفي كسب العبد بين موتيهما وجهان ، أحدهما : أنه معدود من تركة الميت ، وأصحهما : أنه للوارث خاصة . قال في " الأم " : ولو قالا لعبدهما : أنت حبيس على آخرنا موتا ، فإذا مات ، عتقت ، فهو كما لو قالا : إذا متنا فأنت حر ، إلا أن هناك المنفعة بين الموتين تكون لورثة الأول ، وهي للآخر ، [ ص: 189 ] وكذا الكسب ، وكأن أولهما موتا أوصى بهما لآخرهما موتا . ولو قال أحدهما : إذا مت ، فأنت حر ، فإذا مات ، عتق نصيبه ، ولم يسر .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قال لعبده : أنت حر إن شئت ، فإنما يعتق إذا شاء على الفور ، وقيل : لا يشترط الفور ، والصحيح الأول . ولو علق التدبير بمشيئة العبد ، فقال : أنت مدبر إن شئت ، أو دبرتك إن شئت ، أو قال : إن شئت فأنت مدبر ، أو فأنت حر إذا مت ، أو متى مت ، فلا يصير مدبرا إلا بالمشيئة ، والصحيح اشتراط الفور فيها . فلو قال : متى شئت ، أو مهما شئت ، لم يشترط الفور ، ويصير مدبرا متى شاء . وفي الحالتين تشترط المشيئة في حياة السيد ، كسائر الصفات المعلق عليها ، إلا إذا علق صريحا بمشيئة بعد الموت ، فإنما يحصل العتق بمشيئة بعد الموت ، ولا يمنع الامتناع في الحياة من المشيئة بعد الموت . ثم ينظر في لفظ التعليق ، فإن قال : أنت حر بعد موتي إن شئت بعد الموت ، أو اقتصر على قوله : إن شئت ، وقال : أردت بعد الموت ، فقال الإمام والغزالي : لا يشترط الفور بعد الموت ، ونفى الإمام الخلاف في ذلك ; لأنها إذا تأخرت عن الخطاب ، واعتبرت بعد الموت ، لم يكن لاشتراط اتصالهما بعد الموت معنى ولهذا لا يشترط في قبول الوصية .

                                                                                                                                                                        وفي " التهذيب " وغيره وجهان فيما لو قال : إذا مت وشئت بعد موتي فأنت حر ، أن المشيئة على التراضي ، أم يشترط الفور ؟ والصورة كالصورة . ولو قال : إذا مت فشئت فأنت حر ، ففي اشتراط اتصال المشيئة بالموت وجهان . الأصح : [ ص: 190 ] الاشتراط ، وبه أجاب الأكثرون ; لأن الفاء للتعقيب ، ويجري الخلاف في سائر التعليقات ، كقوله : إن دخلت الدار فكلمت زيدا فأنت طالق ، هل يشترط اتصال الكلام بالدخول ؟ ولو قال : إذا مت فمتى شئت فأنت حر ، لم يشترط اتصال المشيئة بالموت بلا خلاف .

                                                                                                                                                                        ولو قال : إذا مت ، فأنت حر إن شئت ، أو إذا شئت ، أو قال : أنت حر إذا مت إن شئت ، فيحتمل أن يراد بهذا اللفظ المشيئة في الحال ، وتحتمل المشيئة بعد الموت ، فيراجع ويعمل بمقتضى إرادته ، فإن قال : أطلقت ولم أنو شيئا ، فثلاثة أوجه . الأصح : حمله على المشيئة بعد الموت ، وبه أجاب الأكثرون . منهم العراقيون ، وشرطوا أن تكون المشيئة بعد الموت على الفور ، ومقتضى ما سبق عن الإمام والغزالي : أن لا يشترط الفور . والثاني : حمله على المشيئة في الحياة وبعد الموت ; لأن الموت متردد بينهما فتكفي المشيئة في حياة السيد ، ويشترط الفور على الصحيح . والثالث : تشترط المشيئة في الحياة ، فإن لم يتحققا ، لم يحصل يقين العتق ، وليجر هذا الخلاف في سائر التعليقات ، كقوله : إذا دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت فلانا . أيعتبر الكلام بعد الدخول ، أم قبله ؟ قال الإمام : ونشأ من هذا المنتهى إشكال فيما لو قال لعبده : إن رأيت عينا فأنت حر ، والعين لفظ مشترك بين الباصرة ، والدينار ، وعين الماء ، ولم ينو المعلق شيئا ، فهل يعتق العبد إذا رأى شيئا منها ؟ فيه تردد ، والوجه : أنه يعتق ، وبه يضعف اعتبار المشيئتين في مسألة المشيئة .

                                                                                                                                                                        ولك أن تقول : إن لم تكن المسألة كالمسألة ، فلا إلزام ، وإن كانت كهي ، فليحصل العتق بالمشيئة في الحياة أو بعد [ ص: 191 ] الموت ، كمسألة العين ، وهذا وجه غير الثلاثة ، ثم الأشبه أن اللفظ المشترك لا يحمل جميع معانيه ، ولا يحمل عند الإطلاق على كلها ، ويمكن أن يؤمر بتعيين أحدها ، ومتى اعتبر في المشيئة بعد الموت الفور فأخرها ، بطل التعليق ، وإذا لم تعتبر كما في قوله : فأنت حر متى شئت ، فقال القاضي أبو حامد : تعرض عليه المشيئة ، فإن امتنع ، فللورثة بيعه وكذا لو علق بدخول الدار وغيره بعد الموت ، يعرض عليه الدخول ، كما يقال للموصى له : اقبل أو رد . وهل للورثة بيعه قبل المشيئة وعرضها عليه ؟ فيه الخلاف السابق في الفرع الماضي .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قال : إن شاء فلان وفلان ، فعبدي حر بعد موتي ، لم يكن مدبرا حتى يشاءا جميعا . ولو قال : إذا مت ، فشئت ، فأنت مدبر ، فهذا لغو ، وكذا لو قال : إذا مت فدبروا هذا العبد . ولو قال : إذا مت فعبد من عبيدي حر ، ومات ولم يبين ، أقرع بينهم . قال في " الأم " : لو قال : إذا قرأت القرآن بعد موتي فأنت حر ، لا يعتق إلا بقراءة جميع القرآن . ولو قال : إذا قرأت قرآنا عتق بقراءة بعض القرآن .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية