الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 363 ] باب الخيار في البيع

تنبيهات الأول : يستثنى من عموم قوله ( أحدهما : خيار المجلس . ويثبت في البيع والكتابة ) فإنها بيع ، ولا يثبت فيها خيار المجلس . على الصحيح من المذهب . وقطع به الأكثر . وقد ذكره المصنف وغيره من الأصحاب في باب الكتابة . وفيه خلاف يأتي في ذلك الباب . فالأولى أن يقال : عموم كلام المصنف هنا مخصوص بكلامه في الكتابة . الثاني : يستثنى أيضا : لو تولى طرفي العقد . فإنه لا يثبت فيه خيار المجلس على الصحيح المذهب . وعليه أكثر الأصحاب . وقدمه في المغني ، والشرح ، الرعاية الكبرى ، وغيرهم . صححه في الفروع . وجزم به في الرعاية الصغرى ، والحاويين ، وغيرهم . وقيل : يثبت . وهو ظاهر كلام المصنف هنا . وقدمه ابن رزين في شرحه . قال الأزجي في النهاية : وهو الصحيح . وأطلقهما الزركشي . فعلى هذا الوجه : يلزم العقد بمفارقة الموضع الذي وقع العقد فيه . على الصحيح جزم به في المغني ، والشرح ، والرعاية ، وشرح ابن رزين ، الفائق ، وغيرهم . وقيل : لا يحصل اللزوم إلا بقوله " اخترت لزوم العقد " ونحوه . وأطلقهما الزركشي .

الثالث : كذلك حكم الهبة إذا تولى طرفيها واحد . قاله في الفائق وغيره .

الرابع : ظاهر كلام المصنف وغيره : أنه لو اشترى من يعتق عليه : ثبوت خيار المجلس له ، وهو أحد الوجهين . [ ص: 364 ]

والوجه الثاني : لا خيار له .

قال الأزجي في نهايته : الظاهر من المذهب عدم ثبوت الخيار في شراء من يعتق عليه . وجزم ابن عبدوس في تذكرته ، والزركشي . وأطلقهما في التلخيص والبلغة ، والرعايتين . والحاويين ، والفروع ، والفائق . وتجريد العناية .

الخامس : وكذا الخلاف في حق البائع في هذه المسألة . وقيل : يثبت له الخيار ، وإن منعناه من المشتري . قاله في الرعاية . وقال الزركشي : وفي سقوط حق صاحبه وجهان . قوله ( ويثبت في البيع ) . هذا المذهب . وعليه الأصحاب . ونص عليه . وقطع به أكثرهم . وفي طريقة بعض الأصحاب : رواية لا يثبت خيار المجلس في بيع وعقد معاوضة تنبيه : ظاهر قوله " ويثبت في البيع " أنه سواء كان فيه خيار شرط أو لا . وهو أحد الوجهين . وهو ظاهر كلامه في الفروع ، والوجيز وغيرهما . وقيل : لا يثبت فيه خيار المجلس . [ ويأتي في خيار الشرط إن ابتدأه من حين العقد على الصحيح من المذهب ] وأطلقهما في التلخيص ، والبلغة ، والرعايتين ، والحاويين . والفائق . وفائدة الوجهين : هل ابتداء مدة خيار الشرط من حين العقد ، أو من حين التفرق ؟ فعلى الأول : يكون من حين التفرق . وعلى الثاني : من حين العقد . قاله في التلخيص . وغيره . قوله ( والإجارة ) . ثبت خيار المجلس في الإجارة مطلقا . على الصحيح من المذهب . وعليه أكثر الأصحاب . وهو ظاهر ما جزم به في الهداية ، والمذهب والمستوعب ، [ ص: 365 ] والخلاصة ، والتلخيص ، والبلغة ، والشرح ، والمحرر ، والوجيز ، والفائق ، وغيرهم وقدمه في الكافي ، والفروع ، والزركشي وغيرهم . وقيل : لا يثبت في إجارة تلي العقد ، وهو وجه في الكافي . وأطلقهما في الحاوي الكبير . وأطلق في الرعاية الكبرى الوجهين في الإجارة في الذمة . وجزم في الحاوي الكبير بثبوت الخيار فيها . قوله ( ويثبت في الصرف والسلم ) .

وهو المذهب . قال في الفروع : يثبت على الأصح . قال الناظم : هذا الأولى . وصححه المصنف ، والشارح . وجزم به في الوجيز ، وتذكرة ابن عبدوس وقدمه في الكافي ، والزركشي ، وغيرهما .

وعنه لا يثبت فيهما . وجزم به ناظم نهاية ابن رزين . وأطلقهما في الهداية ، والفصول ، والمذهب ، ومسبوك الذهب ، والمستوعب ، والخلاصة ، والتلخيص ، والبلغة ، والمحرر ، والرعايتين ، والحاويين ، والفائق ، وتجريد العناية ، وغيرهم . وخص القاضي الخلاف في كتاب الروايتين في الصرف ، وتردد في السلم : هل يلحق الصرف أو ببقية البياعات ؟ على احتمالين .

فائدة :

قال المصنف ، والشارح ، وغيرهما : ويثبت في الصرف والسلم ، وما يشترط فيه القبض في المجلس . كبيع مال الربا بجنسه . على الصحيح . وقال في الفروع : وعلى الأصح ، وما يشترط فيه قبض . كصرف ، وسلم . وقال في الرعاية الكبرى : وفي الصرف ، والسلم وقيل : وبقية الربوي بجنسه روايتان . قوله ( ولا يثبت في سائر العقود إلا في المساقاة ) . وكذا المزارعة ، والحوالة ، والسبق في أحد الوجهين . وأطلقهما في الهداية ، والمذهب ، ومسبوك الذهب ، والمستوعب ، والخلاصة ، والتلخيص ، والبلغة ، والمحرر ، النظم ، والرعايتين ، والحاوي الصغير ، والفائق . [ ص: 366 ] وأطلقهما في الحوالة في الحاوي الكبير . أحدهما : لا يثبت فيهن . وهو المذهب . جزم به في الوجيز . وصححه في التصحيح . وقدمه في الفروع ، والشرح . وقدمه الزركشي في غير الحوالة . وقدمه في الحاوي الكبير في المساقاة والمزارعة .

والوجه الثاني : يثبت فيهن الخيار . قال الزركشي : يثبت في الحوالة ، إن قيل : هي بيع . لا إن قيل : هي إسقاط أو عقد مستقل . انتهى . وعلى هذا الوجه : لا يثبت الخيار إلا للمحيل لا غير .

تنبيهات الأول : الخلاف هنا في المساقاة والمزارعة مبني على الخلاف في كونهما لازمين أو جائزين . على الصحيح من المذهب . جزم به في المغني ، والشرح ، ابن حمدان وغيره . فإن قلنا : هما جائزان وهو المذهب على ما يأتي فلا خيار فيهما . وإن قلنا : هما لازمان دخلهما الخيار .

وقيل : الخلاف هنا على القول بلزومهما . وجزم به في الحاوي الكبير . وكذا حكم السبق والرمي . وجزم به في الحاوي الكبير . فعلى القول بأنهما جعالة وهو المذهب فلا خيار فيهما . وعلى القول بلزومهما دخلهما الخيار . وقيل : الخلاف على القول بلزومهما . وجزم به في الحاوي الكبير .

الثاني : شمل قوله " ولا يثبت في سائر العقود " غير ما استثناه : مسائل . منها : الهبة . وهي تارة تكون بعوض ، وتارة تكون بغير عوض . فإن كانت بعوض : ففي ثبوت الخيار فيهما روايتان مبنيتان على أنها : هل تصير بيعا ، [ ص: 367 ] أو يغلب فيها حكم الهبة ، على ما يأتي في أول باب الهبة ، قاله المصنف ، والشارح وغيرهما . وجزم في التلخيص ، والخلاصة ، والبلغة : بأن الخيار يثبت فيهما . قال في الهداية ، والمذهب ، والمستوعب وغيرهم : فإن شرط فيها عوضا فهي كالبيع .

فقد يقال : ظاهر كلام المصنف هنا : أن الخيار لا يثبت فيها . ويحتمل أن يقال : لم تدخل هذه المسألة في كلام المصنف . لأنها نوع من البيع ، على الصحيح . وهو أولى . وقال القاضي : الموهوب له يثبت له الخيار على التأبيد ، بخلاف الواهب . قال الشيخ تقي الدين رحمه الله : وفيه نظر .

وقال ابن عقيل : الواهب بالخيار ، إن شاء أقبض وإن شاء منع . فإذا أقبض فلا خيار له . وكذا قال غيره . وإن كانت بغير عوض : فهي كالوصية ، لا يثبت فيها خيار . استغناء بجوازها . جزم به المصنف ، والشارح ، وابن حمدان ، وصاحب الحاوي وغيرهم .

ومنها : القسمة . وظاهر كلامه هنا : أنه لا يثبت فيها ، وهو أحد الوجهين . قال الأزجي في نهايته : القسمة إفراز حق . على الصحيح . فلا يدخلها خيار المجلس . وإن كان فيها رد : احتمل أن يدخلها خيار المجلس . انتهى .

والوجه الثاني : يدخلها خيار المجلس . وهو الصحيح من المذهب . قال في الفروع : وفي الأصح وفي قسمة .

وقطع القاضي في التعليق ، وابن الزاغوني بثبوت الخيار فيها مطلقا . وقطع به في الرعاية إن قلنا : هي بيع . وكذا الزركشي .

قال القاضي في المجرد : ولا يدخلها خيار ، حيث قلنا : هي إفراز . قال في الحاوي الكبير : إن كان فيها رد فهي كالبيع . يدخلها الخياران معا وإن لم يكن فيها رد ، وعدلت السهام ، ووقعت القرعة : نظرت . فإن كان القاسم [ ص: 368 ] الحاكم فلا خيار . لأنه حكم . وإن كان أحد الشريكين : لم يدخلها خيار . لأنها إفراز حق ، وليست بيع . انتهى . وقاله ابن عقيل أيضا .

ومنها : الإقالة . فلا يثبت فيها خيار المجلس . على الصحيح من المذهب . لأنها فسخ ، وإن قلنا هي بيع : ثبت . وقال في التلخيص : ويحتمل عندي أن لا يثبت ، ويأتي ذلك في الإقالة . ومنها : الأخذ بالشفعة . فلا خيار فيها . على الصحيح من المذهب . كما هو ظاهر كلام المصنف هنا . وقدمه في المغني ، والشرح ، والفروع ، وغيرهم . واختاره المصنف ، والقاضي ، ابن عقيل ، وصاحب التلخيص ، وغيرهم . ذكره الحارثي في الشفعة .

وقيل : فيها الخيار . وهو احتمال في المغني ، والشرح ، وغيرهما . وأطلقهما في الرعايتين ، والحاويين ، والقواعد .

ومنها : سائر العقود اللازمة غير ما تقدم كالنكاح ، والوقف ، والخلع ، والإبراء ، العتق على مال ، الرهن ، والضمان ، والإقالة لراهن وضامن وكفيل . قاله في الرعاية . فلا يثبت في شيء من ذلك خيار المجلس . وذكر في الحاوي الكبير فيما إذا قالت : طلقني بألف . فقال : طلقتك بها طلقة احتمالين . أحدهما : عدم الخيار مطلقا . والثاني : يثبت له الخيار في الامتناع من قبض الألف ليكون الطلاق . رجعيا .

ومنها : جميع العقود الجائزة ، كالجعالة ، والشركة ، والوكالة ، والمضاربة ، والعارية ، الوديعة ، والوصية قبل الموت . ونحو ذلك . فلا يثبت فيها خيار المجلس .

التنبيه الثالث :

مراده بقوله ( ما لم يتفرقا بأبدانهما ) التفرق العرفي . قاله الأصحاب . وقد ضبط ذلك بعرف مكان بحسبه . فلو كان في فضاء واسع أو مسجد كبير أو سوق . فقيل : يحصل التفرق بأن [ ص: 369 ] يمشي أحدهما مستدبرا صاحبه خطوات . جزم به ابن عقيل . وقدمه المصنف ، والشارح . وجزم به في المستوعب ، وشرح ابن رزين ، والحاويين .

وقيل : بل يبعد عنه بحيث لا يسمع كلامه عادة . جزم به في الكافي ، والنظم .

وإن كانا في سفينة كبيرة : صعد أحدهما على أعلاها . ونزل الآخر إلى أسفلها . وإن كانت صغيرة : خرج أحدهما منها ومشى . وإن كانا في دار كبيرة : فتحصل المفارقة بخروجه من بيت إلى بيت ، أو إلى مجلس أو صفة ونحو ذلك ، بحيث يعد مفارقا . وإن كانت صغيرة ، فإن صعد أحدهما السطح أو خرج منها فقد فارقه .

ولو أقاما في مجلس وبنى بينهما حاجزا من حائط أو غيره : لم يعد تفرقا . جزم به في المستوعب ، والمغني ، والشرح ، وصاحب الحاوي وغيرهم . التنبيه الرابع :

ظاهر كلام المصنف : أن الفرقة تحصل بالإكراه . وفيه طريقان .

أحدهما : طريقة الأكثر منهم المصنف في الكافي قال الزركشي : وهو أجود ، وهي أن الخلاف جار في جميع مسائل الإكراه . فقيل : يحصل بالعرف مطلقا . وهو ظاهر كلام المصنف ، وجماعة . وقدمه الزركشي . وقيل : لا يحصل به مطلقا . اختاره القاضي . وجزم به في الفصول ، والمستوعب والحاويين . وصححه في الرعاية الكبرى . وقدمه في التلخيص . فعليه يبقى الخيار في مجلس زال عنهما الإكراه فيه حتى يفارقاه . وأطلقهما في الفائق . والوجه الثالث : إن أمكنه ولم يتكلم بطل خياره ، وإلا فلا . وهو احتمال في التلخيص . [ ص: 370 ] الطريق الثاني : إن حصل الإكراه لهما جميعا : انقطع خيارهما قولا واحدا ، وإن حصل لأحدهما : فالخلاف فيه . وهي طريقة المصنف في المغني ، والشارح ، وابن رزين في شرحه . وذكر في الأولى احتمالا .

وقال في الفروع : ولكل من البائعين الخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما عرفا ، ولو كرها . وفي بقاء خيار المكره وجهان . انتهى .

فائدة :

ذكر ابن عقيل من صور الإكراه : لو رأيا سبعا أو ظالما خافاه فهربا منه ، أو حملهما سيل أو ريح وفرقت بينهما . وقدم في الرعاية الكبرى : أن الخيار لا يبطل في هذه الصور . وجزم . بما قال ابن عقيل ، وابن رزين في شرحه . ونص عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية