الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                          صفحة جزء
                                                                          [ ص: 175 ] باب النية لغة : القصد ، يقال : نواك الله بخير ، أي قصدك به ، ومحلها : القلب ، فتجزئ وإن لم يتلفظ . ولا يضر سبق لسانه بغير قصده وتلفظه بما نواه تأكيد وشرعا ( العزم على فعل الشيء ) من عبادة وغيرها ( يزاد ) في حد النية ( في عبادة : تقربا إلى الله تعالى ) بأن لا يشرك في العبادة بالله غيره .

                                                                          فلو ألجئ إليها ( بيمين ) أو غيره ففعل ، ولم ينو قربة لم تصح ( وهي ) أي النية ( شرط ) للصلاة لقوله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } والإخلاص : عمل القلب وهو محض النية ولحديث { إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى } متفق عليه ( ولا تسقط بحال ) ; لأن محلها القلب ، فلا يتأتى العجز عنها ( ولا يمنع صحتها ) أي الصلاة ( قصد تعليمها ) لفعله صلى الله عليه وسلم في صلاته على المنبر وغيره ( أو ) قصد ( خلاص من خصم ، أو إدمان سهر ) بعد إتيانه بالنية المعتبرة . وذكره ابن الجوزي فيما ينقص الأجر .

                                                                          ومثله : قصده مع نية الصوم هضم الطعام أو قصده مع نية الحج رؤية البلاد النائية ونحوه ; لأنه قصد ما يلزم ضرورة . كنية التبرد أو النظافة مع نية رفع الحدث . وقال ابن الجوزي في الممترج بثوب من الرياء وحظ النفس : إن تساوى الباعثان فلا له ولا عليه ، وإلا أثيب ، وأثم بقدره .

                                                                          وكلام غيره يدل على أن ثوب الرياء يبطل ( والأفضل : أن تقارن ) النية ( التكبير ) للإحرام لتقارن العبادة وخروجا من الخلاف ( فإن تقدمته ) أي التكبير النية بزمن ( يسير ، لا ) إن كان التقدم ( قبل ) دخول ( وقت أداء ) مكتوبة ( وراتبة ولم يرتد ) من قدم النية على التكبير ( ولم يفسخها ) أي النية قبله ( صحت ) الصلاة ; لأن تقدم نية الفعل عليه لا تخرجه عن كونه منويا ، كالصوم وكبقية الشروط ; ولأن في اعتبار المقارنة حرجا ومشقة

                                                                          فوجب سقوطه . لقوله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } فإن تقدمت النية الوقت لم تعتبر ، للاختلاف في كونها ركنا . وهو لا يتقدم الوقت كبقية الأركان . وكذا إن ارتد أو فسخها لبطلانها بذلك ( ويجب استصحاب حكمها ) أي النية إلى آخر الصلاة ، بأن لا ينوي قطعها دون ذكرها ، فلو ذهل عنها [ ص: 176 ] أو عزبت عنه في أثناء الصلاة لم تبطل ; لأن التحرز عنه غير ممكن وكالصوم .

                                                                          وإن أمكنه استصحاب ذكرها فهو أفضل ( فتبطل ) النية والصلاة ( بفسخ ) النية ( في الصلاة ) ; لأن النية شرط في جميعها وقد قطعها . والفرق بينها وبين الحج أنه لا يخرج منه بمحظوراته ، بخلاف الصلاة فإن فسخها بعد الصلاة لم تبطل . وتبطل أيضا ( وتردد فيه ) أي الفسخ ; لأنه يبطل استدامتها ، فهو كقطعها ( و ) تبطل أيضا ( وعزم عليه ) أي الفسخ ; لأن النية عزم جازم .

                                                                          ومع العزم على فسخها لا جزم فلا نية . وكذا لو علقه على شرط و ( لا ) تبطل بعزم ( على ) فعل ( محظور ) في صلاته بأن عزم على كلام ولم يتكلم ، أو فعل حدث ونحوه ، ولم يفعله لعدم منافاته الجزم المتقدم ; لأنه قد يفعل المحظور وقد لا يفعل ، ولا مناقض في الحال للنية المتقدمة ، فتستمر إلى أن يوجد مناقض .

                                                                          ( و ) تبطل النية ( بشكه ) أي المصلي ( هل نوى ) الصلاة فعمل معه عملا ( أو ) شكه ( هل عين ) ظهرا أو عصرا .

                                                                          أو عين مغربا أو عشاء ( فعمل معه ) أي الشك ( عملا ) فعليا ، كركوع أو سجود أو رفع ، أو قوليا ، كقراءة وتسبيح ( ثم ذكر ) أنه كان نوى أو عين ; لأن ما عمله خلا عن نية جازمة ، فإن لم يحدث مع الشك عملا ، ثم ذكر أنه نوى أو عين ، لم تبطل ، وإن لم يذكر استأنف ( وشرط ) بالبناء للمفعول ( مع نية الصلاة تعيين معينة ) فرضا كانت أو نفلا فينوي كون المكتوبة ظهرا أو عصرا ،

                                                                          أو كون الصلاة نذرا ، إن كانت كذلك ، أو تراويح أو وترا ، أو راتبة إن كانت ، لتمتاز عن غيرها ، فلو كانت عليه صلوات وصلى أربع ركعات ينوي بها مما عليه ، لم تصح ( ولا ) تشترط نية ( قضاء في فائتة ) ; لأن كلا منهما يستعمل بمعنى الآخر يقال : قضيت الدين وأديته ، وقال تعالى : { فإذا قضيتم مناسككم } أي أديتموها وتعيين الوقت ليس بمعتبر ، ولذلك لا يلزم من عليه فائتة تعيين يومها ، بل يكفيه كونها السابقة أو الحاضرة ،

                                                                          فلو كان عليه ظهران فائتة وحاضرة وصلاهما ، ثم ذكر أنه ترك شرطا من أحدهما وجهلها لزمه ظهر واحدة ينوي بها ما عليه . وإن كان عليه ظهران فائتتان اعتبر تعيين السابقة للترتيب ، بخلاف المنذورتين ( و ) لا تشترط نية ( أداء ) في صلاة ( حاضرة ) لما تقدم ، .

                                                                          ( و ) لا نية ( فرضية في فرض ) ولا إعادة في معادة ونحوه ، [ ص: 177 ] كالتي قبلها ، لكن لو ظن أن عليه ظهرا فائتة فقضاها في وقت ظهر حاضرة ،

                                                                          ثم بان أن لا قضاء عليه لم يجزئه عن الحاضرة ; لأنه لم ينوها ، ولو نوى ظهر اليوم في وقتها وعليه فائتة ، لم تجز عنها ولا يشترط في النية أيضا تعيين عدد الركعات بأن ينوي الفجر ركعتين والظهر أربعا ، لكن إن نوى الظهر مثلا : ثلاثا أو خمسا لم تصح . ولا يشترط أيضا نية الاستقبال ، ولا إضافة الفعل لله تعالى ، بل يستحب بأن يقول : أصلي لله ; لأن العبادة لا تكون إلا لله ( وتصح نية ) صلاة ( فرض من قاعد ) ولو قدر على قيام ; لأن استصحاب النية عند الدخول في الصلاة كاف .

                                                                          وكذا لو نوى غير مستقبل أو مكشوف العورة أو حامل نجاسة ونحوه ، ثم استقبل أو سترها أو ألقى النجاسة ونحوه ثم أحرم ، اكتفاء باستصحاب النية عند الدخول ( ويصح قضاء ) صلاة ( بنية أداء ) بها إذا بان خلاف ظنه . كما لو أحرم ظانا أن الشمس لم تطلع يصح أداء فبان طلوعها . صحت قضاء ( و ) يصح ( عكسه ) أي أداء بنية قضاء ( إذا بان خلاف ظنه ) بأن نوى عصرا قضاء ظانا غروب شمس ، فتبين عدمه . صحت أداء كالأسير إذا تحرى وصام ، فبان أنه وافق الشهر أو ما بعده ، ولأن كلا منهما يستعمل بمعنى الآخر ، كما تقدم و ( لا ) يصح ذلك ( إن علم بقاء الوقت ) أو خروجه ونوى خلافه وقصد معناه المصطلح عليه ; لأنه متلاعب ( وإن أحرم ) مصل ( بفرض ) كظهر ( في وقته المتسع ) له ولغيره ( ثم قلبه نفلا ) بأن فسخ نية الفرضية دون نية الصلاة ( صحت مطلقا ) أي سواء كان صلى الأكثر منها أو الأقل ، وسواء كان لغرض صحيح أو لا ; لأن النفل يدخل في نية الفرض أشبه ما لو أحرم بفرض فبان قبل وقته ، وكما لو قلبه لغرض صحيح .

                                                                          وإن ضاق الوقت لزمه ابتداء فرضه ( وكره ) قلبه ( نفلا لغير غرض ) صحيح . فإن كان كمن أحرم منفردا ، ثم أقيمت الجماعة لم يكره أن يقلبه نفلا ليصلي معها . وعن أحمد : فيمن صلى ركعة من فرض منفردا ثم أقيمت الصلاة : أعجب إلي أن يقطعه ويدخل معهم ، وعلى هذا فقطع النفل أولى .

                                                                          ( وإن انتقل ) من أحرم بفرض كظهر ( إلى ) فرض ( آخر ) كعصر ( بطل فرضه ) الذي انتقل عنه ( وصار ) ما انتقل عنه ( نفلا إن استمر ) على حاله ; لأنه قطع نية الفرضية بنية انتقاله عنه دون نية الصلاة فتصير [ ص: 178 ] نفلا . ولا يصح الفرض الذي انتقل إليه ( إن لم ينو ) الفرض ( الثاني من أوله بتكبيرة إحرام ) لخلو أوله عن نية تعينه ،

                                                                          ( فإن نواه ) من أوله بتكبيرة إحرام ( صح ) كما لو لم يتقدمه إحرام بغيره ( ومن أتى بما يفسد الفرض فقط ) أي دون النفل ، كترك القيام بلا عذر ، وترك رجل ستر أحد عاتقيه ، وصلاة في الكعبة ، واقتداء مفترض بمتنفل وصبي ، وشرب يسير ونحوه معتقدا جوازه . وكان نوى الفرض ( انقلب ) فرضه ( نفلا ) ; لأنه كقطع نية الفرضية . فتبقى نية الصلاة ( وينقلب نفلا ما ) أي فرض ( بأن عدمه ك ) ما لو أحرم ( بفائتة ) يظنها عليه ،

                                                                          فتبين أنه ( لم تكن ) عليه فائتة ( أو ) أحرم بفرض ثم تبين له أنه ( لم يدخل وقته ) ; لأن الفرض لم يصح ، ولم يوجد ما يبطل النفل ، ( وإن علم ) أن لا فائتة عليه أو أن الفرض لم يدخل وقته ونواه ( لم تنعقد ) صلاته ; لأنه متلاعب .

                                                                          التالي السابق


                                                                          الخدمات العلمية