الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3363 (29) باب

                                                                                              في غزوة خيبر وما اشتملت عليه من الأحكام

                                                                                              [ 1318 ] عن سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى خيبر، فسرنا ليلا، فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هنيهاتك؟ -وكان عامر رجلا شاعرا- فنزل يحدو بالقوم يقول:


                                                                                              اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا     فاغفر فداء لك ما اقتفينا
                                                                                              وثبت الأقدام إن لاقينا     وألقين سكينة علينا
                                                                                              إنا إذا صيح بنا أتينا     وبالصياح عولوا علينا

                                                                                              فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: من هذا السائق؟ قالوا: عامر، قال: رحمه الله. فقال رجل من القوم: وجبت يا رسول الله، لولا أمتعتنا به؟ قال: فأتينا خيبر فحاصرناهم حتى أصابتنا مخمصة شديدة، ثم قال: "إن الله فتحها عليكم". قال: فلما أمسى الناس مساء اليوم الذي فتحت عليهم، أوقدوا نيرانا كثيرة، فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "ما هذه النيران؟ على أي شيء توقدون؟ قالوا: على لحم، قال: أي لحم؟ قالوا: لحم حمر إنسية، فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "أهريقوها واكسروها". فقال رجل من القوم : أو يهريقونها ويغسلونها؟ فقال: "أو ذاك". قال: فلما تصاف القوم، كان سيف عامر فيه قصر، فتناول به ساق يهودي ليضربه ، ورجع ذباب سيفه، فأصاب ركبة عامر ، فمات منه، قال: فلما قفلوا ، قال سلمة وهو آخذ بيدي: قال: لما رآني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شاحبا قال: "ما لك؟" قلت له: فداك أبي وأمي، زعموا أن عامرا حبط عمله، قال: "من قاله؟" قلت: فلان وفلان، وأسيد بن حضير الأنصاري، فقال: "كذب من قاله، إن له لأجرين، -وجمع بين إصبعيه- إنه لجاهد مجاهد، قل عربي مشى بها مثله".


                                                                                              رواه أحمد ( 4 \ 47 و 48) والبخاري (2477)، ومسلم (1802) (123) ، وابن ماجه (3195).

                                                                                              [ ص: 663 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 663 ] (29) ومن باب: غزوة خيبر

                                                                                              قوله : ( ألا تسمعنا من هنيهاتك ؟ ) أي : من أراجيزك ، وهو تصغير : (هنة) . و (هن) : كناية عن النكرات . وفيه ما يدل على استنشاد الشعر وإنشاده على جهة التنشيط على الأعمال الشاقة والأسفار ، وترويح النفوس من الغم ، لكن إذا سلم من الآفات التي قدمنا ذكرها ، ثم على القلة ، والندور.

                                                                                              و (الحدو) أصله : السوق . ولما كان إنشاد الشعر في السفر يسوق الإبل سمي : حدوا .

                                                                                              وقوله : (

                                                                                              اللهم لولا أنت ما اهتدينا

                                                                                              ) ; كذا الرواية هنا مجزوما- بالزاي- ; [ ص: 664 ] أي: زائدا فيه حرف. وصوابه من جهة الوزن : لا هم ، تالله ، أو : والله ، كما جاء في الحديث الآخر :

                                                                                              والله لولا الله ما اهتدينا

                                                                                              .

                                                                                              وقوله : (

                                                                                              فاغفر فداء لك ما اقتفينا

                                                                                              ) ; الرواية هنا بكسر الفاء من (فداء) وبالمد . وقد رواه بعضهم بفتح الفاء والمد ، وقد حكاه الأصمعي . وحكى الفراء : فدى- مفتوحا مقصورا- وهو- أعني في البيت- مرفوع بالابتداء ، خبره : ما اقتفينا ، ومفعول (اغفر) محذوف ، أي : ذنوبنا . ويجوز أن يكون ( ما اقتفينا ) مفعول (اغفر) ، وخبر المبتدأ محذوف ; أي : فداء لك نفوسنا .

                                                                                              ومعنى ( اقتفينا ) أي : اكتسبنا . وأصله : من القــفا . وكأن المكتسب للشيء يجري خلفه ، حتى يصل إليه . وهذا الكلام إنما يقال لمن تجوز عليه لحوق المكاره والمشقات ، فإذا قاله أحدنا لجنسه ، كان معناه : إن نفسي وقاية لك من المكاره ; أي : تصيبني ولا تصيبك . وهذا المعنى لا يليق بالله تعالى ، فيحتمل أن يكون إطلاقه هذا اللفظ على الله تعالى بحكم جريان ذلك على ألسنتهم من غير قصد ، كما قالوا : قاتله الله . وتربت يمينك . كما قدمناه في كتاب الطهارة . ويحتمل أن يحمل على الاستعارة . ووجهها : أنه لما كان الفداء مبالغة في رضا المفدى عبر بالفداء عن الرضا . أو يريد بذلك : فداء لدينك . أو : لطاعتك ; أي : نجعل نفوسنا فداء لإظهارهما.

                                                                                              وقوله : (

                                                                                              إنا إذا صيح بنا أبينا

                                                                                              ) من الإباء . و ( أتينا ) من الإتيان . الروايتان صحيحتان ، ومعناهما : إذا صاح بنا أعداؤنا أبينا الفرار ، وبتنا لا يهولنا صياحهم . وعلى الأخرى : إذا صرخ بنا أتينا للنصرة ، وإذا صاح بنا أعداؤنا أتيناهم مسرعين غير متربصين ولا متوقــفين .

                                                                                              وقوله : (

                                                                                              وألقين سكينة علينا

                                                                                              ) ; أي : سكونا وتثبيتا في أوقات الحروب ، [ ص: 665 ] وصبرا في مواطن المشقات .

                                                                                              وقوله : (

                                                                                              وبالصياح عولوا علينا

                                                                                              ) ; أي : ليس عندهم إلا الصياح ، فلا نبالي بهم .

                                                                                              وقول الرجل : ( وجبت ) ; أي : الرحمة التي دعا له بها النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وكان هذا الرجل من أهل العلم بحال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وذلك : أنه علم أن دعوته مستجابة لمكانته عند ربه تعالى . وفهم : أن تلك الرحمة التي تعجل للمدعو له ، فقال : ( لولا متعتنا به ) ; أي : هلا دعوت الله في أن يمتعنا ببقائه .

                                                                                              و ( المخمصة ) : الجوع الشديد .

                                                                                              وقوله -صلى الله عليه وسلم- : ( إن الله فتحها عليكم ) ; أي : يفتحها عليكم . فوضع الماضي موضع المستقبل لما كان أمرا محققا عنده . أو يكون أخبر عما علم الله من فتحها .

                                                                                              و ( أنسية ) روي بفتح الهمزة والنون . قال البخاري : كان ابن أبي أويس يقول : (الأنسية) - بفتح الألف والنون- وأكثر روايات الشيوخ فيه : (الإنسية) بكسر [ ص: 666 ] الهمزة وسكون النون- وكلاهما صحيح . والأنس- بالفتح- : التأنس.

                                                                                              قلت : وهو بالفتح منسوب إلى الأنس ، بمعنى التأنس ، وبالكسر إلى الإنس الذي هو نوع الإنسان . وقيل : إن كليهما منسوب إلى الإنس ، لكن الأول على غير قياس ، والأول أولى . والله تعالى أعلم.

                                                                                              وقوله : ( أهريقوها واكسروها ) ; الضمير في ( أهريقوها ) للحوم. وفي ( اكسروها ) للقدور ، وإن لم يجر لهما ذكر ، لكنهما تدل عليهما الحال. والهاء الأول في ( أهريقوها ) زائدة ; لأن أصله : أراق ، يريق . وقد يبدلون من هذه الهمزة (هاء) فيقولون : هراق الماء ، وهرق ماءك ، كما تقول : أراق ، وأرق .

                                                                                              وفيه : دلالة على تحريم لحوم الحمر الإنسية ، وسيأتي في الأطعمة إن شاء الله .

                                                                                              وقوله : ( أو ذاك ) ساكنة الواو ، إشارة إلى إجازة غسل القدور ، وتخيير بينه وبين الكسر المأمور به أولا . وهذا يدل لمن قال : إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أبيح له الحكم بالرأي والاجتهاد .

                                                                                              و ( قــفلوا ) : رجعوا . و ( شاحبا ) : متغيرا . و ( حبط ) : بطل . و (كذا) أخطأ .




                                                                                              الخدمات العلمية