الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 78 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة فصلت .

                                                                                                                                                                                                                                      مكية .

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة "حم السجدة" بمكة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير، مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد وأبو يعلى والحاكم وصححه، وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل، وابن عساكر ، عن جابر بن عبد الله قال : اجتمع قريش يوما فقالوا : انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا وشتت أمرنا، وعاب ديننا فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه؟ فقالوا : ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة قالوا : أنت يا أبا الوليد، فأتاه فقال : يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ أنت خير أم عبد المطلب، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك أما والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك [ ص: 79 ] منك فرقت جماعتنا وشتت أمرنا وعبت ديننا وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا وأن في قريش كاهنا، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف، يا أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا واحدا، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فرغت قال : نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن كتاب فصلت آياته حتى بلغ فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود [فصلت : 13] فقال عتبة : حسبك حسبك، ما عندك غير هذا قال : لا، فرجع إلى قريش فقالوا : ما وراءك قال : ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته قالوا : فهل أجابك؟ قال : والذي نصبها بنية ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود . قالوا : ويلك، يكلمك الرجل بالعربية ولا تدري ما قال؟ قال : لا، والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن إسحاق ، وابن المنذر والبيهقي في الدلائل، وابن عساكر [ ص: 80 ] عن محمد بن كعب القرظي قال : حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا حليما، قال ذات يوم وهو جالس في نادي قريش ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده في المسجد يا معشر قريش ألا أقوم إلى هذا فأكلمه فأعرض عليه أمورا لعله أن يقبل منا بعضها ويكف عنا؟ قالوا : بلى يا أبا الوليد فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث فيما قال له عتبة وفيما عرض عليه من المال والملك وغير ذلك، حتى إذا فرغ عتبة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفرغت يا أبا الوليد قال : نعم، قال : فاسمع مني، قال : أفعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم : حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليه فلما سمعها عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة فسجد فيها ثم قال : سمعت يا أبا الوليد؟ قال : سمعت قال : فأنت وذاك، فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد قال : والله إني قد سمعت قولا ما سمعت بمثله قط والله ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة والله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 81 ] وأخرج أبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن ابن عمر قال : لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على عتبة بن ربيعة حم تنزيل من الرحمن الرحيم أتى أصحابه

                                                                                                                                                                                                                                      فقال : يا قوم أطيعوني في هذا اليوم واعصوني بعده فوالله لقد سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت أذناي قط كلاما مثله وما دريت ما أرد عليه .


                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن شهاب قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير فنزل في بني غنم على أسعد بن زرارة فجعل يدعو الناس فجاء سعد بن معاذ فتوعده فقال له أسعد بن زرارة : استمع من قوله فإن سمعت منكرا فاردده بأهدى منه، وإن سمعت حقا فأجب إليه، فقال : ماذا تقول فقرأ مصعب حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون [الزخرف : 1-3] قال : سعد بن معاذ : ما أسمع إلا ما أعرف فرجع وقد هداه الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البيهقي في الدلائل، وابن عساكر ، عن جابر بن عبد الله قال : قال أبو جهل والملأ من قريش : لقد انتشر علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلا [ ص: 82 ] عالما بالسحر والكهانة والشعر، فكلمه ثم أتانا ببيان من أمره فقال عتبة : لقد سمعت قول السحر والكهانة والشعر وعلمت من ذلك علما وما يخفى علي إن كان كذلك فأتاه، فلما أتاه قال له عتبة : يا محمد أنت خير أم هاشم أنت خير أم عبد المطلب، أنت خير أم عبد الله فلم يجبه قال : فيم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا؟ فإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك فكنت رأسنا ما بقيت وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي بنات قريش شئت، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك - ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم - فلما فرغ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم : حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا فقرأ حتى بلغ : أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود [فصلت : 13] فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عنه ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم فقال أبو جهل : يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه وما ذاك إلا من حاجة أصابته انطلقوا بنا إليه، فأتوه فقال له أبو جهل : والله يا عتبة ما حسبنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره، فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من [ ص: 83 ] أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد، فغضب وأقسم بالله لا يكلم محمدا أبدا وقال : لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته - فقص عليهم القصة - فأجابني بشيء والله ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة، قرأ : بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا

                                                                                                                                                                                                                                      حتى بلغ : أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسكت بفيه، وناشدته الرحم فكف وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب .


                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن عساكر عن ابن عمر، أن قريشا اجتمعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد فقال لهم عتبة بن ربيعة : دعوني حتى أقوم إليه فأكلمه؛ فإني عسى أن أكون أرفق به منكم . فقام عتبة حتى جلس إليه فقال : يا ابن أخي إنك أوسطنا بيتا وأفضلنا مكانا، وقد أدخلت على قومك ما لم يدخل رجل على قومه قبلك، فإن كنت تطلب بهذا الحديث مالا، فذلك لك على قومك؛ أن نجمع لك حتى تكون أكثرنا [ ص: 84 ] مالا، وإن كنت تريد شرفا فنحن مشرفوك حتى لا يكون أحد من قومك فوقك، ولا نقطع الأمور دونك، وإن كان هذا عن لمم يصيبك لا تقدر على النزوع عنه، بذلنا لك خزائننا حتى نعذر في طلب الطب لذلك منك، وإن كنت تريد ملكا ملكناك . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفرغت يا أبا الوليد؟ قال : نعم . فقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم ( حم السجدة) حتى مر بالسجدة فسجد وعتبة ملق يده خلف ظهره حتى فرغ من قراءتها، وقام عتبة لا يدري ما يراجعه به، إلى نادي قومه، فلما رأوه مقبلا قالوا : لقد رجع إليكم بوجه ما قام به من عندكم . فجلس إليهم فقال : يا معشر قريش قد كلمته بالذي أمرتموني به، حتى إذا فرغت كلمني بكلام لا والله ما سمعت أذناي بمثله قط فما دريت ما أقول له يا معشر قريش أطيعوني اليوم واعصوني فيما بعده، اتركوا الرجل واعتزلوه فوالله ما هو بتارك ما هو عليه وخلوا بينه وبين سائر العرب فإن يظهر عليهم يكن شرفه شرفكم وعزه عزكم وملكه ملككم، وإن يظهروا عليه تكونوا قد كفيتموه بغيركم، قالوا : صبأت يا أبا الوليد .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" عن عبد الرحمن بن أبي بكر [ ص: 85 ] قال : جئت أزور عائشة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه، ثم سري عنه فقال : يا عائشة ناوليني ردائي . فناولته ثم أتى المسجد فإذا مذكر يذكر، فجلس حتى إذا قضى المذكر تذكرته افتتح : حم تنزيل من الرحمن الرحيم فسجد فطالت سجدته ثم تسامع به من كان على ميلين، وملئ عليه المسجد، فأرسلت عائشة في حامتها أن احضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقد رأيت منه أمرا ما رأيت منه منذ كنت معه . فرفع رأسه فقال : سجدت هذه السجدة شكرا لربي فيما أبلاني في أمتي . فقال له أبو بكر : وماذا أبلاك في أمتك؟ قال : أعطاني سبعين ألفا من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب . فقال أبو بكر : يا رسول الله إن أمتك كثير طيب، فازدد . قال : قد فعلت فأعطاني مع كل واحد من السبعين ألفا سبعين ألفا . فقال : يا رسول الله ازدد لأمتك . فقال بيده، ثم قال بهما على صدره، فقال عمر : أوعيت يا رسول الله .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 86 ] وأخرج البيهقي في "شعب الإيمان" عن الخليل بن مرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ "تبارك" و"حم السجدة" .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : وقالوا قلوبنا في أكنة الآية . أخرج عبد بن حميد، وابن المنذر ، عن مجاهد في قوله : وقالوا قلوبنا في أكنة قالوا : كالجعبة للنبل .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو سهل السري بن سهل الجنديسابوري في حديثه، من طريق عبد القدوس عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر بن الخطاب في قوله : وقالوا قلوبنا في أكنة الآية . قال : أقبلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم : ما يمنعكم من الإسلام فتسودوا العرب؟ فقالوا : يا محمد، ما نفقه ما تقول، ولا نسمعه، وإن على قلوبنا لغلفا . وأخذ أبو جهل ثوبا فمده فيما بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد، قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : أدعوكم إلى خصلتين؛ أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني رسول الله . فلما سمعوا شهادة أن لا إله إلا الله ولوا على أدبارهم نفورا [الإسراء : 46]، [ ص: 87 ] وقالوا : أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب [ص : 5]، وقال بعضهم لبعض : امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق أأنزل عليه الذكر من بيننا . [ص : 86]

                                                                                                                                                                                                                                      فهبط جبريل فقال : يا محمد، إن الله يقرئك السلام، ويقول : أليس يزعم هؤلاء أن على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقر، فليس يسمعون قولك؟ كيف وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا [الإسراء : 46] لو كان كما زعموا لم ينفروا ولكنهم كاذبون يسمعون ولا ينتفعون بذلك كراهية له . فلما كان من الغد أقبل منهم سبعون رجلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد، اعرض علينا الإسلام . فلما عرض عليهم الإسلام أسلموا عن آخرهم، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : الحمد لله، بالأمس تزعمون أن على قلوبكم غلفا، وقلوبكم في أكنة مما ندعوكم إليه، وفي آذانكم وقرا، وأصبحتم اليوم مسلمين . فقالوا : يا رسول الله، كذبنا والله بالأمس، لو كان كذلك ما اهتدينا أبدا، ولكن الله الصادق والعباد الكاذبون عليه، وهو الغني ونحن الفقراء إليه .


                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية