الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 206 ] ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وسبعمائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      استهلت وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها . وفي أول يوم منها فتح حمام الزيت الذي في رأس درب الحجر جدد عمارته رجل سامري بعد ما كان قد درس ودثر من زمان الخوارزمية من نحو ثمانين سنة ، وهو حمام جيد متسع .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي سادس المحرم وصلت هدية من ملك التتار بو سعيد إلى السلطان صناديق وتحف ودقيق . وفي يوم عاشوراء خرج الشيخ تقي الدين ابن تيمية من السجن بالقلعة بمرسوم السلطان ، وتوجه إلى داره ، وكانت مدة مقامه بالقلعة خمسة أشهر وثمانية عشر يوما ، رحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي رابع ربيع الآخر وصل إلى دمشق القاضي كريم الدين وكيل السلطان ، فنزل بدار السعادة ، وقدم قاضي القضاة تقي الدين بن عوض الحاكم الحنبلي بمصر ، وهو ناظر الخزانة أيضا ، فنزل بالعادلية الكبيرة التي للشافعية ، فأقام بها أياما ، ثم توجه إلى مصر جاء في بعض أشغال السلطان وزار القدس .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذا الشهر كان السلطان قد حفر بركة قريبا من الميدان ، [ ص: 207 ] وكان في جوارها كنيسة ، فأمر الوالي بهدمها ، فلما هدمت تسلط الحرافيش وغيرهم على الكنائس بمصر يهدمون ما قدروا ، عليه فانزعج السلطان من ذلك ، وسأل القضاة : ماذا يجب على من تعاطى ذلك منهم ؟ فقالوا يعذر ، فأخرج جماعة من السجون ممن وجب عليه قتل ، فقطع وصلب وخزم وعاقب موهما أنه إنما عاقب من تعاطى تخريب الكنائس ، فسكن الناس ، وأمنت النصارى ، وظهروا بعد ما كانوا قد اختفوا أياما .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيه ثارت الحرامية ببغداد ، ونهبوا سوق الثلاثاء وقت الظهر ، فثار الناس وراءهم ، وقتلوا منهم قريبا من مائة ، وأسروا آخرين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ علم الدين البرزالي - ومن خطه نقلت - : وفي يوم الأربعاء السادس من جمادى الأولى خرج القضاة ، والأعيان ، والمفتون إلى القابون ، ووقفوا على قبلة الجامع الذي أمر ببنائه القاضي كريم الدين وكيل السلطان بالمكان المذكور ، وحرروا قبلته ، واتفقوا على أن تكون مثل قبلة جامع دمشق . وفيه وقعت مراجعة بين الأمير جوبان أحد المقدمين الكبار بدمشق وبين نائب السلطنة تنكز ، فمسك جوبان ، ورفع إلى القلعة ليلتين ، ثم حول إلى القاهرة ، فعوتب في ذلك ، ثم أعطي خبزا يليق به .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكر الشيخ علم الدين أن في هذا الشهر وقع حريق عظيم في القاهرة في [ ص: 208 ] الدور الحسنة ، والأماكن المليحة المرتفعة ، وبعض المساجد ، وحصل للناس مشقة عظيمة من ذلك ، وقنتوا في الصلوات ، ثم كشفوا عن القضية فإذا هو من فعل النصارى بسبب ما كان أحرق لهم من كنائسهم وهدم ، فقتل السلطان بعضهم ، وألزم النصارى أن يلبسوا الزرقة على رءوسهم وثيابهم كلها ، وأن يحملوا الأجراس في الحمامات ، وأن لا يستخدموا في شيء من الجهات ، فسكن الأمر وبطل الحريق .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي جمادى الآخرة خرب ملك التتار بو سعيد البازار ، وزوج الخواطئ ، وأراق الخمور ، وعاقب في ذلك أشد العقوبة ، وفرح المسلمون بذلك ، ودعوا له ، رحمه الله وسامحه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي الثالث عشر من جمادى الآخرة أقيمت الجمعة بجامع القصب ، وخطب به الشيخ علي المناخلي . وفي يوم الخميس تاسع عشرين جمادى الآخرة فتح الحمام الذي أنشأه تنكز تجاه جامعه ، وأكري في كل يوم بأربعين درهما لحسنه ، وكثرة ضوئه ، ورخامه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم السبت تاسع عشر رجب خربت كنيسة القرائين التي [ ص: 209 ] تجاه حارة اليهود ، بعد إثبات كونها محدثة ، وجاءت المراسيم السلطانية بذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي أواخر رجب نفذت الهدايا من السلطان إلى بو سعيد ملك التتر ، صحبة الخواجا مجد الدين السلامي ، وفيها خمسون جملا وخيول وحمار عتابي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي منتصف رمضان أقيمت الجمعة بالجامع الكريمي بالقابون ، وشهدها يومئذ القضاة ، والصاحب ، وجماعة من الأعيان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ علم الدين : وقدم دمشق الإمام قوام الدين أمير كاتب بن الأمير العميد عمر الإتقاني الفارابي ، مدرس مشهد الإمام أبي حنيفة ببغداد ، في أول رمضان ، وقد حج في هذه السنة ، وتوجه إلى مصر ، وأقام بها أشهرا ، ثم مر بدمشق متوجها إلى بغداد ، فنزل بالخاتونية الحنفية ، وهو ذو فنون وبحث وأدب وفقه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وخرج الركب الشامي يوم الاثنين عاشر شوال ، وأميره شمس الدين حمزة التركماني ، وقاضيه نجم الدين الدمشقي . وفي هذه السنة حج تنكز نائب الشام وفي صحبته جماعة من أهله ، وقدم من مصر الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب لينوب عنه في غيبته إلى أن يرجع ، فنزل بالنجيبية البرانية .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 210 ] وممن حج فيها الخطيب جلال الدين القزويني ، وعز الدين حمزة بن القلانسي ، وابن العز شمس الدين الحنفي ، والقاضي جلال الدين بن حسام الدين الحنفي ، وبهاء الدين ابن عليمة ، والشيخ علم الدين البرزالي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ودرس ابن جماعة بزاوية الشافعي يوم الأربعاء ثامن عشر شوال عوضا عن شهاب الدين أحمد بن محمد الأنصاري لسوء تصرفه ، وخلع على ابن جماعة ، وحضر عنده من الأعيان والعامة ما يشابه جميعة الجمعة ، وأشعلت شموع كثيرة فرحا بزوال المعزول .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال البرزالي - ومن خطه نقلت - : وفي يوم الأحد سادس عشر شوال ذكر الدرس الإمام العلامة تقي الدين السبكي ، المحدث بالمدرسة الكهارية عوضا عن ابن الأنصاري أيضا ، وحضر عنده جماعة منهم القونوي ، وروى في الدرس حديث المتبايعين بالخيار ، عن قاضي القضاة ابن جماعة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي شوال عزل علاء الدين بن معبد عن ولاية البر وشد الأوقاف ، وتولى ولاية الولاة بالبلاد القبلية بحوران عوضا عن بكتمر لسفره إلى الحجاز ، وباشر أخوه بدر الدين شد الأوقاف ، والأمير علم الدين الطرقشي ولاية البر مع شد الدواوين ، وتوجه ابن الأنصاري إلى حلب متوليا وكالة بيت المال عوضا عن تاج الدين أخي شرف الدين يعقوب ناظر حلب ، بحكم ولاية التاج المذكور [ ص: 211 ] نظر الكرك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم عيد الفطر ركب الأمير تمرتاش بن جوبان نائب بو سعيد على بلاد الروم من قيسارية في جيش كثيف من التتار والتركمان والقرمان ، ودخل بلاد سيس ، فقتل ، وسبى ، وحرق ، وخرب ، وكان قد أرسل لنائب حلب ألطنبغا ليجهز له جيشا يكون عونا له على ذلك ، فلم يمكنه ذلك بغير مرسوم السلطان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية