الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 265 ] ثم دخلت سنة ست وعشرين وسبعمائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها ، سوى كاتب السر بدمشق شهاب الدين محمود ، فإنه توفي ، وولي المنصب من بعده ولده الصدر شمس الدين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها تحول التجار في قماش النساء المخيط من الدهشة التي للجامع إلى دهشة سوق علي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم الأحد ثامن المحرم باشر مشيخة الحديث الظاهرية الشيخ شهاب الدين بن جهبل ، بعد وفاة العفيف إسحاق ، وترك تدريس الصلاحية بالقدس الشريف ، واختار دمشق ، وحضر عنده القضاة والأعيان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي أولها فتح الحمام الذي بناه الأمير سيف الدين جوبان جوار داره ، بالقرب من دار الجالق ، وله بابان ، أحدهما إلى ناحية مسجد الوزير ، وحصل به نفع .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم الاثنين الثاني والعشرين من صفر قدم الصاحب غبريال من مصر على البريد ، متوليا نظر الدواوين بدمشق على عادته ، وانفصل عنها الكريم الصغير ، وفرح الناس به .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 266 ] وفي يوم الثلاثاء حادي عشرين ربيع الأول بكرة النهار ضربت عنق ناصر ابن الشرف أبي الفضل بن إسماعيل بن الهيتي بسوق الخيل ، على كفره ، واستهانته ، واستهتاره بآيات الله ، وصحبته الزنادقة كالنجم بن خلكان ، والشمس محمد الباجربقي ، وابن المعمار البغدادي ، وكل منهم فيه انحلال وزندقة مشهور بها بين الناس .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ علم الدين البرزالي : وربما زاد هذا المذكور المضروب العنق عليهم بالكفر والتلاعب بدين الإسلام ، والاستهانة بالنبوة والقرآن . قال : وحضر قتله العلماء ، والأكابر ، وأعيان الدولة . قال : وكان هذا الرجل قد حفظ " التنبيه " في أول أمره ، وكان يقرأ في الختم بصوت حسن ، وعنده نباهة وفهم ، وكان منزلا في المدارس والترب ، ثم إنه انسلخ من ذلك جميعه ، وكان قتله عزا للإسلام ، وذلا للزنادقة وأهل البدع .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قلت : وقد شهدت قتله ، كان شيخنا العلامة أبو العباس ابن تيمية حاضرا يومئذ ، وقد أتاه وقرعه على ما كان يصدر منه قبل قتله ، ثم ضربت عنقه ، وأنا مشاهد ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي شهر ربيع الأول رسم بإخراج الكلاب من مدينة دمشق ، فجعلوا في الخندق ظاهر باب الصغير من ناحية باب شرقي ، الذكور على حدة ، والإناث على حدة ، وألزم أصحاب الدكاكين بذلك ، وشددوا في أمرهم أياما .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 267 ] وفي ربيع الآخر ولي الشيخ علاء الدين المقدسي معيد البادرائية مشيخة الصلاحية بالقدس الشريف ، وسافر إليها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي جمادى الآخرة عزل قرطاي عن نيابة طرابلس ، ووليها طينال ، وقدم قرطاي على خبز القرماني بدمشق ، بحكم سجن القرماني بقلعة دمشق .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال البرزالي : وفي يوم الاثنين بعد العصر السادس من شعبان اعتقل الشيخ الإمام العالم العلامة تقي الدين ابن تيمية بقلعة دمشق ، حضر إليه من جهة نائب السلطنة تنكز مشد الأوقاف ، وابن الخطير أحد الحجاب بدمشق ، وأخبراه أن مرسوم السلطان ورد بذلك ، وأحضرا معهما مركوبا ليركبه ، فأظهر السرور والفرح بذلك ، وقال : أنا كنت منتظرا لذلك ، وهذا فيه خير كثير ومصلحة كبيرة . وركبوا جميعا من داره إلى باب القلعة ، وأخليت له قاعة ، وأجري إليها الماء ، ورسم له بالإقامة فيها ، وأقام معه أخوه زين الدين يخدمه بإذن السلطان ، ورسم له ما يقوم بكفايته .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال البرزالي : وفي يوم الجمعة عاشر الشهر المذكور قرئ بجامع دمشق الكتاب السلطاني الوارد باعتقاله ومنعه من الفتيا ، وهذه الواقعة سببها فتيا وجدت بخطه في المنع من السفر وإعمال المطي إلى زيارة قبور الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وقبور الصالحين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 268 ] قال : وفي يوم الأربعاء منتصف شعبان أمر قاضي القضاة الشافعي بحبس جماعة من أصحاب الشيخ تقي الدين في سجن الحكم ، وذلك بمرسوم نائب السلطنة ، وإذنه له فيه فيما تقتضيه الشريعة في أمرهم ، وعزر جماعة منهم على دواب ونودي عليهم ، ثم أطلقوا سوى شمس الدين محمد بن قيم الجوزية ، فإنه حبس في القلعة ، وسكنت القضية .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : وفي أول رمضان وصلت الأخبار إلى دمشق أنه أجريت عين ماء إلى مكة ، شرفها الله ، وانتفع الناس بها انتفاعا كثيرا ، وهذه العين تعرف قديما بعين باذان ، أجراها جوبان من بلاد بعيدة حتى دخلت إلى نفس مكة ، ووصلت إلى عند الصفا وباب إبراهيم ، واستقى الناس منها ، فقيرهم وغنيهم ، وضعيفهم وشريفهم ، كلهم فيها سواء ، وارتفق أهل مكة بذلك رفقا كثيرا ، ولله الحمد والمنة . وكانوا قد شرعوا في حفرها وتجديدها في أوائل هذه السنة إلى العشر الأخر من جمادى الأولى ، واتفق أن في هذه السنة كانت الآبار التي في مكة قد يبست وقل ماؤها ، وقل ماء زمزم أيضا ، فلولا أن الله تعالى لطف بالناس بإجراء هذه القناة لنزح عن مكة أهلها ، أو لهلك كثير ممن يقيم بها ، وأما الحجيج في أيام الموسم فحصل لهم بها رفق عظيم زائد عن الوصف ، كما شاهدنا ذلك في سنة إحدى وثلاثين عام حججنا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وجاء كتاب السلطان إلى نائبه بمكة بإخراج الزيديين من المسجد الحرام ، وأن لا يكون لهم فيه إمام ولا مجتمع ، ففعل ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 269 ] وفي يوم الثلاثاء رابع شعبان درس بالشامية الجوانية شهاب الدين أحمد بن جهبل ، وحضر عنده القزويني القاضي الشافعي وجماعة ، عوضا عن الشيخ أمين الدين سالم بن أبي الدر إمام مسجد ابن هشام ، توفي ، ثم بعد أيام جاء توقيع بولاية القاضي الشافعي ، فباشرها في عشرين رمضان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي عاشر شوال خرج الركب الشامي ، وأميره سيف الدين جوبان ، وحج عامئذ القاضي شمس الدين بن مسلم قاضي الحنابلة ، وبدر الدين ابن قاضي القضاة جلال الدين القزويني ، ومعه تحف وهدايا وأمور تتعلق بالأمير سيف الدين أرغون نائب مصر ، فإنه حج في هذه السنة ، ومعه أولاده وزوجته بنت السلطان ، وحج فخر الدين ابن شيخ السلامية ، وصدر الدين المالكي ، وفخر الدين البعلبكي ، وغيرهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم الأربعاء عاشر ذي القعدة درس بالحنبلية برهان الدين إبراهيم بن أحمد بن هلال الزرعي الحنبلي ، عوضا عن شيخ الإسلام ابن تيمية ، وحضر عنده القاضي الشافعي ، وجماعة من الفقهاء ، وشق ذلك على كثير من أصحاب الشيخ تقي الدين ، وكان ابن الخطير الحاجب قد دخل على الشيخ تقي الدين قبل هذا بيوم ، فاجتمع به وسأله عن أشياء بأمر نائب السلطنة ، ثم يوم الخميس دخل إليه القاضي جمال الدين بن جملة ، وناصر الدين مشد [ ص: 270 ] الأوقاف ، وسألاه عن مضمون قوله في مسألة الزيارة ، فكتب ذلك في درج ، وكتب تحته قاضي الشافعية بدمشق : قابلت الجواب عن هذا السؤال المكتوب على خط ابن تيمية فصح . . . إلى أن قال : وإنما المحز جعله زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم - معصية بالإجماع مقطوعا . فانظر الآن هذا التحريف على شيخ الإسلام فإن جوابه على هذه المسألة ليس فيه منع زيارة قبور الأنبياء والصالحين ، وإنما فيه ذكر قولين في شد الرحال والسفر إلى مجرد زيارة القبور ، وزيارة القبور من غير شد رحل إليها مسألة ، وشد الرحل لمجرد الزيارة مسألة أخرى ، والشيخ لم يمنع الزيارة الخالية عن شد رحل ، بل يستحبها ويندب إليها ، وكتبه ومناسكه تشهد بذلك ، ولم يتعرض إلى هذه الزيارة على هذا الوجه في الفتيا ، ولا قال : إنها معصية ، ولا حكى الإجماع على المنع منها ، ولا هو جاهل بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      والله سبحانه لا يخفى عليه شيء ، ولا تخفى عليه خافية : وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون [ الشعراء : 227 ] .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم الأحد رابع عشر القعدة فتحت المدرسة الحمصية تجاه الشامية الجوانية ، ودرس بها محيي الدين الطرابلسي ، وكان قاضي حصن عكار ، ويلقب بأبي رباح ، وحضر عنده القاضي الشافعي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي ذي القعدة سافر القاضي جمال الدين الزرعي من الأتابكية إلى مصر ، [ ص: 271 ] ونزل عن تدريسها لمحيي الدين بن جهبل . وفي ثاني عشر ذي الحجة درس بالنجيبية ابن قاضي الزبداني عوضا عن الدمشقي نائب الحكم مات بالمدرسة المذكورة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية