الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 388 ] باب السلم

                                                                                                                                            قال الشافعي رحمه الله تعالى : " أخبرنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن عبد الله بن أبي كثير ، - أو ابن كثير ، الشك من المزني - عن أبي المنهال ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قدم المدينة وهم يسلفون في التمر السنة وربما قال السنتين والثلاث ، فقال صلى الله عليه وسلم : " من أسلف فليسلف في كيل معلوم ، ووزن معلوم ، وأجل معلوم " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح .

                                                                                                                                            أما السلف والسلم فهما عبارتان عن معنى واحد ، فالسلف لغة عراقية ، والسلم لغة حجازية ، والدليل على جوازه ؛ الكتاب والسنة واتفاق الصحابة رضي الله عنهم .

                                                                                                                                            قال الله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه [ البقرة : 282 ] .

                                                                                                                                            وروى الشافعي ، عن ابن عباس أنه قال : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه ، وأذن الله فيه ثم قرأ ياأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه [ البقرة : 282 ] . فدل هذا النقل أن هذه الآية وردت في إباحة السلم ، ثم دل عليه من نفس الآية قوله في إثباتها : إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم [ النساء : 29 ] فليس عليكم جناح ألا تكتبوها [ البقرة : 282 ] وهذا في البيع الناجز ، فدل أن ما قبله من الموصوف غير الناجز .

                                                                                                                                            ثم يدل عليه من السنة ما قدمه الشافعي ، عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أسلم فليسلم في كيل معلوم ، ووزن معلوم ، وأجل معلوم " . وروى أبو داود هذا الحديث بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : وإلى أجل معلوم . قال الشافعي : [ ص: 389 ] وأخبرني من أصدقه ، عن سفيان ، أنه قال في الأجل : وإلى أجل معلوم . وقد حفظته عن سفيان مرارا كما وصفته .

                                                                                                                                            وروى شعبة ، عن أبي المجالد قال : اختلف عبد الله بن شداد وأبو بردة في السلف ، فبعثوني إلى ابن أبي أوفى فسألته فقال : كنا نسلف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر في الحنطة والشعير إلى قوم ما هو عندهم .

                                                                                                                                            وروى عطية بن سعد ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره .

                                                                                                                                            وروى جامع بن شداد ، عن طارق المجازي قال : كنت في رفقة فنزلنا قرب المدينة ، فكان معنا ناقة حمراء ، فخرج إلينا رجل عليه ثوبان فقال : تبيعون الناقة ؟ قلنا : نعم . قال : بكم ؟ فقلنا : بكذا وكذا وسقا من تمر . فأخذ الناقة ولم يتربص ، فلما أخذها وتوارى بين جدران المدينة ، قال بعضنا لبعض : أتعرفون الرجل ؟ فقال بعضنا : أما وجهه بوجه غدار ، فلما كان وقت العصر جاءنا رجل ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تأكلوا حتى تشبعوا ، وأن تكتالوا حتى تستوفوا ، قال : فأكلنا حتى شبعنا ، واكتلنا حتى استوفينا . فموضع الدلالة منه أنه ابتاع الناقة بثمن موصوف في الذمة .

                                                                                                                                            فدل على أمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : جواز السلم في الأصل .

                                                                                                                                            والثاني : جوازه حالا .

                                                                                                                                            فقد اختلف أصحابنا في عقد السلم بلفظ البيع كقول : بعتك هذا الدينار بقفيز حنطة موصوفة في الذمة ، هل يكون بيعا أو سلما ؟ فقال بعضهم : يكون سلما بلفظ البيع : لأن السلم صنف من البيوع ، فعلى هذا لا يصح أن يفترقا قبل قبض الدينار ، ويصح الاستدلال على جواز السلم بهذا الحديث . وقال آخرون من أصحابنا : يكون بيعا : لأن السلم اسم هو أخص ، فعلى هذا يجوز أن يفترقا قبل قبض الدينار ، ولا يصح الاستدلال بهذا الحديث على جواز السلم . ثم يدل على جواز السلم من طريق المعنى أن عقد البيع يجمع ثمنا ومثمنا ، فلما تنوع الثمن نوعين معينا وموصوفا وجب أن يتنوع المثمن نوعين معينا وموصوفا ، فالمعين البيوع [ ص: 390 ] الناجزة ، والموصوف السلم في الذمة ، فدل على ما ذكرنا من النص والاستدلال والمعنى على جواز السلم .

                                                                                                                                            فأما الإجماع فقد انعقد من الصحابة بما روينا من حديث ابن أبي أوفى ، ولم يخالف بعدهم إلا ابن المسيب ، فقد حكيت عنه حكاية شاذة أنه أبطل السلم ، ومنع منه وهو إن صحت الحكاية عنه فمحجوج بإجماع من تقدموا مع ما ذكرنا من النصوص الدالة والمعنى الموجب .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية