الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
[ ص: 176 ] فصل ( في قضاء الحوائج والشفاعة فيها لدى الأئمة والسلاطين ) .

قد سبق في الاستئذان كلام يتعلق بقضاء الحوائج والمساعدة عليها . وجاء رجل إلى الحسن بن سهل يستشفع به في حاجة فقضاها فأقبل الرجل يشكره فقال له الحسن بن سهل : علام تشكرنا ونحن نرى أن للجاه زكاة كما أن للمال زكاة ؟ وفي لفظ ونحن نرى كتب الشفاعات زكاة مروآتنا ثم أنشأ يقول :

فرضت علي زكاة ما ملكت يدي وزكاة جاهي أن أعين وأشفعا     فإذا ملكت فجد فإن لم تستطع
فاجهد بوسعك كله أن تنفعا



قال القاضي المعافى بن زكريا : ولله در القائل :

وإذا امرؤ أهدى إليك صنيعة     من جاهه فكأنها من ماله

وروى ابن أبي شيبة في مصنفه وابن ماجه من حديث موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف عن جهمان عن أبي هريرة مرفوعا { لكل شيء زكاة وزكاة الجسد الصوم } .

وقال بعضهم :

وإذا السعادة أحرستك عيونها     نم فالمخاوف كلهن أمان
واصطد بها العنقاء فهي حبائل     واقتد بها الجوزاء فهي عنان



وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه كان إذا أتاه السائل أو صاحب الحاجة قال اشفعوا فلتؤجروا ، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء } رواه البخاري ومسلم وفي لفظه " تؤجروا " رواه أحمد ولأبي داود { اشفعوا إلي لتؤجروا وليقض الله على لسان رسوله ما شاء } . وعن معاوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { إن الرجل ليسألني عن الشيء فأمنعه كي تشفعوا [ ص: 177 ] له فتؤجروا } وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { : اشفعوا تؤجروا } رواه النسائي عن هارون بن سعيد الأيلي عن سفيان عن عمرو بن دينار عن وهب بن منبه عن أخيه همام عن معاوية إسناد جيد .

وقال ابن عبد البر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { استعينوا على حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود } وقال محمد بن واسع لقتيبة بن مسلم : إني أتيتك في حاجة رفعتها إلى الله قبلك فإن يأذن الله فيها قضيتها وحمدناك ، وإن لم يأذن فيها لم تقضها وعذرناك .

وقال يونس :

أنزلت بالحر إبراهيم مسألة     أنزلتها قبل إبراهيم بالله
فإن قضى حاجتي فالله يسرها     هو المقدرها والآمر الناهي
إذا أبى الله شيئا ضاق مذهبه     عن الكبير العريض القدر والجاه

قال أبو العتاهية :

خير المذاهب في الحاجات أنجحها     وأضيق الأمر أدناه إلى الفرج

وكتب سوار بن عبد الله بن سوار القاضي إلى محمد بن عبد الله بن طاهر :

لنا حاجة والعذر فيها مقدم     خفيف ومعناها مضاعفة الأجر
فإن تقضها فالحمد لله ربنا     وإن تكن الأخرى ففي واسع العذر
على أنه الرحمن معط ومانع     وللرزق أسباب إلى قدر يجري



فأجابه محمد بن طاهر :

فسلها تجدني موجبا لقضائها     سريعا إليها لا يخاطبني فكر
شكور بإفضالي عليك بمثلها     وإن لم يكن فيما حوته يدي شكر
فهذا قليل للذي قد رأيته     لحقك لا من لدي ولا ذخر

[ ص: 178 ]

وقال جعفر بن محمد : حاجة الرجل إلى أخيه فتنة لهما ، إن أعطاه شكر من لم يعطه ، وإن منعه ذم من لم يمنعه .

وقال خالد بن صفوان : لا تطلبوا الحوائج عند غير أهلها ، ولا تطلبوها في غير حينها ، ولا تطلبوا ما لا تستحقون منها ، فإن من طلب ما لا يستحق استوجب الحرمان .

وقال رجل للعباس بن محمد أو لعبد الله بن العباس أتيتك في حاجة صغيرة قال : فاطلب لها رجلا صغيرا . وقيل لآخر أتيتك في حاجة صغيرة قال : اذكرها عند الحر يقوم بصغير الحاجات وكبيرها ، كأن يقال : لا تستعن على حاجة بمن هي طعمته ، ولا تستعن بكذاب ، فإنه يقرب البعيد ويباعد القريب ، ولا تستعن على رجل بمن له إليه حاجة .

وقال بعضهم : أصل العبادة أن لا تسأل سوى الله حاجة . فلكل أحد في الله عوض من كل أحد ، وليس لأحد من الله عوض بأحد وقال أبو الأسود :

وإذا طلبت إلى كريم حاجة     فلقاؤه يكفيك والتسليم
وإذا طلبت إلى لئيم حاجة     فألح في رق وأنت مديم

وقال آخر :

لا تطلبن إلى لئيم حاجة     واقعد فإنك قائم كالقاعد
يا خادع البخلاء عن أموالهم     هيهات تضرب في حديد بارد

وقال أبو العتاهية :

اقض الحوائج ما استطع     ت وكن لهم أخيك فارج
فلخير أيام الفتى     يوم قضى فيه الحوائج

[ ص: 179 ]

وقال بعضهم قالوا من صبر على حاجته ظفر بها ، ومن أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له وقال علي بن أبي طالب :

اصبر على مضض الإدلاج في السحر     وفي الرواح إلى الحاجات والبكر
لا تضجرن ولا يعجزك مطلبها     فالنجح يتلف بين العجز والقصر
إني رأيت وفي الأيام تجربة     للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقل من جد في شيء تطلبه     واستشعر الصبر إلا فاز بالظفر



وقال سفيان : الإلحاح لا يصلح ولا يجمل إلا على الله عز وجل وقال مورق العجلي سألت ربي حاجة عشرين سنة فما انقضت لي ولا يئست منها وقال أبو العتاهية :

في الناس من تسهل المطالب أح     يانا عليه وربما صعبت
ما كل ذي حاجة بمدركها     كم من يد لا تنال ما طلبت
من لم يسعه الكفاف معتدلا     ضاقت عليه الدنا بما رحبت



وقال بعضهم : استعينوا على الناس في حوائجكم بالتثقيل فذلك نجح لكم وقال آخر :

من عف خف على الصديق لقاؤه     وأخو الحوائج وجهه مملول

وكتب أبو العتاهية إلى بعض أصحابه يعاتبه فقال :

لئن عدت بعد اليوم إني لظالم     سأصرف نفسي حين تبغى المكارم
متى ينجح الغادي إليك بحاجة     ونصفك محجوب ونصفك نائم

وسئل بعض الحكماء حاجة فامتنع فعوتب في ذلك فقال : لأن يحمر وجهي مرة خير من أن يصفر مرارا .

وقال منصور الفقيه :

من قال لا في حاجة     مطلوبة فما ظلم [ ص: 180 ]
وإنما الظالم من     قال لا بعد نعم

وقال آخر :

إن لا بعد نعم فاحشة     فبلا فابدأ إذا خفت الندم
وإذا قلت نعم فاصبر لها     بنجاز الوعد إن الخلف ذم

وسبق ما يتعلق بهذا في الاستئذان ، وقبله في فصول الأمر بالمعروف في الإنكار على ولاة الأمور .

وفي ترجمة عبد الله بن عثمان عبدان شيخ البخاري أنه قال : ما سألني أحد حاجة إلا قمت له بنفسي ، فإن تم وإلا قمت له بمالي ، فإن تم وإلا استعنا له بالإخوان ، فإن تم وإلا استعنت له بالسلطان .

وينبغي أن لا يندم من ردت شفاعته ولا يتأذى على من لم يقبلها ، ويفتح باب العذر وسيد الخلائق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعظم حقا وأولى بكل مؤمن من نفسه بإجماع العلماء ، وقد روى البخاري عن عكرمة عن ابن عباس قال : { كان زوج بريرة عبدا يقال له : مغيث كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس : ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثا ؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم لو راجعتيه فإنه أبو ولدك قالت : يا رسول الله تأمرني ؟ قال لا إنما أشفع قالت : فلا حاجة لي فيه } ، والناس في هذا الأمر ورد شفاعتهم وعدم قبولها متفاوتون جدا ، كما هو معلوم من أحوالهم والله أعلم .

قال ابن الجوزي رحمه الله كان هارون الرقي قد عاهد الله أن لا يسأله أحد كتاب شفاعة إلا فعل ، فجاءه رجل فأخبره أن ابنه قد أسر بالروم وسأله أن يكتب إلى ملك الروم في إطلاقه ، فقال له : ويحك ومن أين يعرفني وإذا سأل عني قيل هو مسلم فكيف يقضي حقي ؟ فقال له السائل : اذكر العهد مع الله تعالى فكتب له إلى ملك الروم ، فلما قرأ الكتاب قال من هذا الذي [ ص: 181 ] قد شفع إلينا ؟ قيل : هذا رجل قد عاهد الله لا يسأل كتاب شفاعة إلا كتبه إلى أي من كان . فقال ملك الروم : هذا حقيق بالإسعاف ، أطلقوا أسيره واكتبوا جواب كتابه وقولوا له : اكتب بكل حاجة تعرض ، فإنا نشفعك فيها . ويأتي الكلام في الكلام والبخل .

وقال الإمام أحمد حدثني الوليد بن مسلم ثنا الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم { إن لله تعالى أقواما اختصهم بالنعم لمنافع العباد ما بذلوها ، فإذا منعوها نزعها منهم وحولها إلى غيرهم } ذكره الحافظ ابن الأخضر فيمن روى عن أحمد في ترجمة أحمد بن محمد بن نصر اللباد أبي نصر رواه عن أحمد .

التالي السابق


الخدمات العلمية