الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                [ ص: 534 ] 27 - باب

                                المرأة تحيض بعد الإفاضة

                                خرج فيه حديثين :

                                أحدهما :

                                322 328 - من حديث عمرة عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن صفية قد حاضت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لعلها تحبسنا ، ألم تكن طافت معكن ؟ ) قالوا : بلى . قال : ( فاخرجي ) .

                                والثاني :

                                329 - من حديث طاوس عن ابن عباس ، قال : رخص للحائض أن تنفر إذا حاضت .

                                323 330 - وكان ابن عمر يقول في أول أمره : إنها لا تنفر . ثم سمعته يقول : تنفر ; إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لهن .

                                التالي السابق


                                قد سبق أن الحائض ممنوعة من الطواف في حال حيضها ، فإن حاضت قبل طواف الإفاضة فإنها لا تنفر حتى تطوف للإفاضة . وإن طافت طواف الإفاضة ، ثم حاضت - فذهب جمهور أهل العلم إلى أنها تنفر ، كما دلت عليه هذه الأحاديث الثلاثة ، أعني : حديث عائشة ، وابن عمر ، وابن عباس .

                                وقد روي عن عمر وابنه عبد الله وزيد بن ثابت أنهم قالوا : لا تنفر حتى تطهر ، وتطوف للوداع . ووافق جماعة من الأنصار زيد بن ثابت في قوله هذا ، وتركوا قول ابن عباس .

                                فأما ابن عمر فقد صح عنه برواية طاوس هذه أنه رجع عن ذلك .

                                [ ص: 535 ] وأما زيد ففي ( صحيح مسلم ) عن طاوس أيضا أنه قال : كنت مع ابن عباس إذ قال زيد بن ثابت : أتفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون عهدها بالبيت ؟ فقال له ابن عباس : إما لا ، فسل فلانة الأنصارية ، هل أمرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : فرجع زيد إلى ابن عباس يضحك ، وهو يقول : ما أراك إلا قد صدقت !

                                وأما عمر فقد روي أيضا أنه رجع عما قاله في ذلك ، فروى عبد الرزاق ، أبنا محمد بن راشد ، عن سليمان بن موسى ، عن نافع ، قال : رد عمر نساء من ثنية هرشى ، وذلك أنهن أفضن يوم النحر ، ثم حضن فنفرن ، فردهن حتى يطهرن ويطفن بالبيت . قال : ثم بلغ عمر بعد ذلك حديث [غير] ما صنع ، فترك عمر صنيعه الأول .

                                قال : وأبنا محمد بن راشد : أخبرني عبدة بن أبي لبابة ، عن هشام بن يحيى المخزومي - أن رجلا من ثقيف أتى عمر بن الخطاب ، فسأله عن امرأة زارت يوم النحر ، ثم حاضت ؟ قال : فلا تنفر حتى تطهر ، فيكون آخر عهدها بالبيت . فقال الرجل : فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر في مثل هذه المرأة بغير ما أفتيت ! فضربه عمر بالدرة ، وقال : ولم تستفتيني في شيء قد أفتى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟

                                وخرج الإسماعيلي في ( مسند عمر ) من طريق هشام بن عمار : ثنا صدقة ، ثنا الشعيثي ، عن زفر بن وثيمة - أن رجلا من ثقيف أتى عمر ، فقال : امرأة منا حاضت ، وقد أفاضت يوم النحر ! فقال : ليكن آخر عهدها بالبيت . فقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم أفتى امرأة منا أن تصدر ! فحمل عمر عليه ، فضربه ، وقال : تستفتيني في شيء قد أفتى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟

                                [ ص: 536 ] وقد روي على وجه آخر خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من رواية الوليد بن عبد الرحمن ، عن الحارث بن عبد الله بن أوس ، قال : أتيت عمر بن الخطاب ، فسألته عن المرأة تطوف بالبيت يوم النحر ، ثم تحيض ، فقال : ليكن آخر عهدها بالبيت . قال الحارث : كذلك أفتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فقال عمر : أربت عن يديك ; سألتني عن شيء سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لكيما أخالف !

                                والوليد هذا ليس بالمشهور .

                                وخرجه الإمام أحمد والترمذي من طريق آخر ، عن الحارث بن عبد الله بن أوس ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( من حج هذا البيت أو اعتمر فليكن آخر عهده بالبيت ) . فقال له عمر : خررت من يديك ! سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم تخبرنا به !

                                وفي إسناده حجاج بن أرطاة ، وقد اختلف عليه في إسناده .

                                وهذه الرواية تدل على أن الحارث بن أوس لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم في الحائض بخصوصها إذا كانت قد أفاضت أنها تحتبس لطواف الوداع ، إنما سمع لفظا عاما . وقد صح الإذن للحائض إذا كانت قد طافت للإفاضة أن تنفر ، فيخص من ذلك العموم . وعلى هذا عمل العلماء كافة من الصحابة فمن بعدهم .

                                وقد روى عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن أبي فروة - أنه سمع القاسم بن محمد يقول : رحم الله عمر ! كل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قد أمروها بالخروج . [ ص: 537 ] يقول : إذا كانت أفاضت .

                                وروى بإسناده عن سعد بن أبي وقاص أنه ذكر له قول عمر : لا تنفر حتى تطهر ليكون آخر عهدها بالبيت ، فقال : ما يجعلها حراما بعد إذ حلت ؟ إذا كانت قد طافت يوم النحر فقد حلت ، فلتنفر .

                                يشير سعد إلى أن من طاف طواف الإفاضة فقد حل الحل كله ، فلا يكون محتبسا بعد حله ، وإنما يبقى عليه بقايا من توابع المناسك ، كالرمي والمبيت بمنى وطواف الوداع . فما أمكن الحائض فعله من ذلك كالرمي والمبيت فعلته ، وما تعذر فعله عليها كالطواف سقط عنها ، ولم يجز إلزامها بالاحتباس له .

                                وكل من خالف في ذلك فإنما تمسك بعموم قد صح تخصيصه بنصوص صحيحة خاصة بالحائض ، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحائض بخصوصها نهي أن تنفر .

                                وحديث الرجل الثقفي الذي حدث عمر بما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم قد روي على ثلاثة أوجه كما سبق ، وأسانيده ليست بالقوية ، فلا يكون معارضا لأحاديث الرخصة للحائض في النفر ; فإنها خاصة ، وأسانيدها في غاية الصحة والثبوت .



                                الخدمات العلمية