الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 193 ] كتاب الأشربة باب تحريم الخمر ونسخ إباحتها المتقدمة 3684 - ( عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة } رواه الجماعة إلا الترمذي ) .

                                                                                                                                            3685 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { مدمن الخمر كعابد وثن } رواه ابن ماجه ) .

                                                                                                                                            3686 - ( وعن أبي سعيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { يا أيها الناس إن الله يبغض الخمر ، ولعل الله سينزل فيها أمرا ، فمن كان عنده منها شيء فليبعه ولينتفع به ، قال : فما لبثنا إلا يسيرا حتى قال صلى الله عليه وسلم : إن الله حرم الخمر فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشرب ، ولا يبيع ، قال : فاستقبل الناس بما كان عندهم منها طرق المدينة فسفكوها . } رواه مسلم ) .

                                                                                                                                            3687 - ( وعن ابن عباس قال : { كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديق من ثقيف ودوس فلقيه يوم الفتح براحلة أو راوية من خمر يهديها إليه ، فقال : يا فلان أما علمت أن الله حرمها ؟ فأقبل الرجل على غلامه فقال : اذهب فبعها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الذي حرم شربها حرم بيعها ، فأمر بها فأفرغت في البطحاء } . رواه أحمد ومسلم والنسائي .

                                                                                                                                            وفي رواية لأحمد : أن رجلا خرج والخمر حلال فأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر ، فذكر نحوه وهو دليل على أن الخمور المحرمة وغيرها تراق ولا تستصلح بتخليل ولا غيره ) .

                                                                                                                                            [ ص: 194 ] وعن أبي هريرة : { أن رجلا كان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم راوية خمر ، فأهداها إليه عاما وقد حرمت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنها قد حرمت ، فقال الرجل : أفلا أبيعها ؟ فقال : إن الذي حرم شربها حرم بيعها ، قال : أفلا أكارم بها اليهود ؟ قال : إن الذي حرمها حرم أن يكارم بها اليهود ، قال : فكيف أصنع بها ؟ قال : شنها على البطحاء } رواه الحميدي في مسنده ) .

                                                                                                                                            3689 - ( وعن ابن عمر قال : { نزل في الخمر ثلاث آيات ، فأول شيء نزلت : { يسألونك عن الخمر والميسر } الآية فقيل حرمت الخمر ، فقيل يا رسول الله ننتفع بها كما قال الله عز وجل ، فسكت عنهم ، ثم أنزلت هذه الآية : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } فقيل : حرمت الخمر بعينها ، فقالوا : يا رسول الله إنا لا نشربها قرب الصلاة ، فسكت عنهم ، ثم نزلت : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان } الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حرمت الخمر } رواه أبو داود الطيالسي في مسنده ) .

                                                                                                                                            3690 - ( وعن علي عليه السلام قال : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر ، فأخذت الخمر منا ، وقد حضرت الصلاة فقدموني ، فقرأت : قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون ، قال : فأنزل الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } رواه الترمذي وصححه ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث أبي هريرة الأول : إسناده في سنن ابن ماجه هكذا : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن الصباح قال : حدثنا محمد بن سليمان الأصبهاني عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة فذكره ، ورجال إسناده ثقات إلا محمد بن سليمان فصدوق لكنه يخطئ ، وقد ضعفه النسائي ، وقال أبو حاتم : لا بأس به وليس بحجة . وحديث علي عليه السلام سيأتي الكلام عليه آخر البحث قوله : ( من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها ) بضم المهملة وكسر الراء الخفيفة من الحرمان ، والمراد بقوله " لم يتب منها " أي من شربها فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه .

                                                                                                                                            قال الخطابي والبغوي في شرح السنة : معنى الحديث لا يدخل الجنة لأن الخمر شراب أهل الجنة ، فإذا حرم شربها دل على أنه لا يدخل الجنة . وقال ابن عبد البر : هذا وعيد شديد يدل على حرمان دخول [ ص: 195 ] الجنة ; لأن الله تعالى خبر أن في الجنة أنهارا من خمر لذة للشاربين ، وأنهم لا يصدعون عنها ولا ينزفون ، فلو دخلها وقد علم أن فيها خمرا أو أنه حرمها عقوبة له لزم وقوع الهم والحزن ، والجنة لا هم فيها ولا حزن ، وإن لم يعلم بوجودها في الجنة ولا أنه حرمها عقوبة له لم يكن عليه في فقدها ألم ، فلهذا قال بعض من تقدم : إنه لا يدخل الجنة أصلا .

                                                                                                                                            قال : وهو مذهب غير مرضي . قال : ويحمل الحديث عند أهل السنة على أنه لا يدخلها ولا يشرب الخمر فيها إلا إن عفا الله عنه كما في بقية الكبائر وهو في المشيئة ، فعلى هذا معنى الحديث : جزاؤه في الآخرة أن يحرمها لحرمانه دخول الجنة إلا إن عفا الله عنه . قال : وجائز أن يدخل الجنة بالعفو ثم لا يشرب فيها خمرا ولا تشتهيها نفسه وإن علم بوجودها فيها . ويؤيده حديث أبي سعيد مرفوعا { من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ، وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه } وقد أخرجه الطبراني وصححه ابن حبان ، وقريب منه حديث عبد الله بن عمرو رفعه { من مات من أمتي وهو يشرب الخمر حرم الله عليه شربها في الجنة } أخرجه أحمد بسند حسن وقد زاد عياض على ما ذكره ابن عبد البر احتمالا ، وهو أن المراد بحرمانه شربها أنه يحبس عن الجنة مدة إذا أراد الله عقوبته ، ومثله الحديث الآخر " لم يرح رائحة الجنة " قال : ومن قال لا يشربها في الجنة بأن ينساها أو لا يشتهيها يقول : ليس عليه في ذلك حسرة ولا يكون ترك شهوته إياها عقوبة في حقه بل هو نقص ، نعم بالنسبة إلى من هو أتم نعيما منه كما تختلف درجاتهم ولا يلحق من هو أنقص درجة بمن هو أعلى درجة منه استغناء بما أعطي واغتباطا به .

                                                                                                                                            وقال ابن العربي : ظاهر الحديثين أنه لا يشرب الخمر في الجنة ولا يلبس الحرير فيها وذلك لأنه استعجل ما أمر بتأخيره ووعد به فحرمه عند ميقاته ، وفصل بعض المتأخرين بين من شربها مستحلا فهو الذي لا يشربها أصلا لأنه لا يدخل الجنة أصلا . وعدم الدخول يستلزم حرمانها ، ومن شربها عالما بتحريمها فهو محل الخلاف ، وهو الذي يحرم شربها مدة ولو في حال تعذيبه إن عذب ، أو المعنى أن ذاك جزاؤه إن جوزي .

                                                                                                                                            وفي الحديث { إن التوبة تكفر المعاصي والكبائر } وذلك في التوبة من الكفر القطعي وفي غيره من الذنوب خلاف بين أهل السنة هل هو قطعي أو ظني ؟ قال النووي : الأقوى أنه ظني .

                                                                                                                                            وقال القرطبي : من استقرأ الشريعة علم أن الله يقبل توبة الصادقين قطعا ، وللتوبة الصادقة شروط مدونة في مواطن ذلك . وظاهر الوعيد أنه يتناول من شرب الخمر ، وإن لم يحصل له السكر لأنه رتب الوعيد في الحديث على مجرد الشرب من غير تقييد . قال في الفتح : وهو مجمع عليه في الخمر المتخذ من عصير العنب ، وكذا فيما يسكر من غيرها ، وأما ما لا يسكر من غيرها فالأمر فيه كذلك عند الجمهور قوله : ( مدمن الخمر كعابد وثن ) [ ص: 196 ] هذا وعيد شديد وتهديد ما عليه مزيد ; لأن عابد الوثن أشد الكافرين كفرا ، فالتشبيه لفاعل هذه المعصية بفاعل العبادة للوثن من أعظم المبالغة والزجر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد قوله : ( إن الله حرم الخمر ) اختلف في بيان الوقت الذي حرمت فيه الخمر ، فقال الدمياطي في سيرته بأنه كان عام الحديبية ، والحديبية كانت سنة ست .

                                                                                                                                            وذكر ابن إسحاق أنه كان في وقعة بني النضير وهي بعد أحد وذلك سنة أربع على الراجح قوله : ( فمن أدركته هذه الآية ) لعله يعني قوله تعالى: { إنما الخمر والميسر } قوله : ( أفلا أكارم بها اليهود ) قال في القاموس : كارمه فكرمه كنصره : غلبه فيه ا هـ . ولعل المراد هنا المهاداة . قال في النهاية : المكارمة أن تهدي لإنسان شيئا ليكافئك عليه وهي مفاعلة من الكرم ا هـ

                                                                                                                                            قوله : ( ثم نزلت إنما الخمر والميسر ) أخرج أبو داود عن ابن عباس أن قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } وقوله تعالى: { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس } نسختهما التي في المائدة : { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس } وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد وفيه مقال .

                                                                                                                                            ووجه النسخ أن الآية الآخرة فيها الأمر بمطلق الاجتناب وهو يستلزم أن لا ينتفع بشيء معه من الخمر في حال من حالاته في غير وقت الصلاة وفي حال السكر وحال عدم السكر وجميع المنافع في العين والثمن قوله : ( وعن علي عليه السلام قال : صنع لنا عبد الرحمن . . . إلخ ) هذا الحديث صححه الترمذي كما رواه المصنف رحمه الله. وأخرجه أيضا النسائي وأبو داود وفي إسناده عطاء بن السائب لا يعرف إلا من حديثه . وقد قال يحيى بن معين : لا يحتج بحديثه ، وفرق مرة بين حديثه القديم وحديثه الحديث ، ووافقه على التفرقة الإمام أحمد . وقال أبو بكر البزار : وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن علي متصل الإسناد إلا من حديث عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن ، يعني السلمي ، وإنما كان ذلك قبل أن تحرم الخمر فحرمت من أجل ذلك . قال المنذري : وقد اختلف في إسناده ومتنه ، فأما الاختلاف في إسناده فرواه سفيان الثوري وأبو جعفر الرازي عن عطاء بن السائب فأرسلوه . وأما الاختلاف في متنه ففي كتاب أبي داود والترمذي : أن الذي صلى بهم علي عليه السلام وفي كتاب النسائي وأبي جعفر النحاس أن المصلي بهم عبد الرحمن بن عوف . وفي كتاب أبي بكر البزار أمروا رجلا فصلى بهم ولم يسمه .

                                                                                                                                            وفي حديث غيره " فتقدم بعض القوم " ا هـ . وأخرج الحاكم في تفسير سورة النساء عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن عن علي رضي الله عنه دعانا رجل من الأنصار قبل تحريم الخمر فحضرت صلاة المغرب فتقدم رجل فقرأ : { قل يا أيها الكافرون } فألبس عليه ، فنزلت { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } ثم قال : صحيح .

                                                                                                                                            [ ص: 197 ] قال : وفي هذا الحديث فائدة كبيرة وهي أن الخوارج تنسب هذا السكر وهذه القراءة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب دون غيره . وقد برأه الله منها فإنه راوي الحديث .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية