الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق التاسع والعشرون في الفرق بين قاعدة النية المخصصة وبين قاعدة النية المؤكدة )

هذا الفرق أيضا ذهب عنه كل من يفتي من أهل العصر فلا يكادون يتعرضون عند الفتاوى للفرق بينهما فإذا جاءهم حالف وقال حلفت لا لبست ثوبا ونويت الكتان يقولون له لا تحنث بغير الكتان وهو خطأ بالإجماع وكذلك بقية النظائر وطريق كشف الغطاء عن ذلك أن نقول إن المطلق إذا أطلق اللفظ العام ونوى جميع أفراده بيمينه حنثناه بكل فرد من ذلك العموم لوجود اللفظ فيه ولوجود النية والنية هنا مؤكدة لصيغة العموم وإن أطلق اللفظ العام من غير نية ولا بساط ولا عادة صارفة حنثناه بكل فرد من أفراد العموم للوضع الصريح في ذلك وإن أطلق اللفظ العام ونوى بعضها باليمين وغفل عن البعض الآخر لم يتعرض له بنفي ولا إثبات حنثناه بالبعض المنوي باللفظ والنية المؤكدة وبالبعض الآخر باللفظ فإنه مستقل بالحكم غير محتاج إلى النية لصراحته والصريح لا يحتاج إلى غيره [ ص: 179 ]

وإن أطلق اللفظ العام وقال نويت إخراج بعض أنواعه عن اليمين قلنا لا يحنث بذلك البعض المخرج لأن نيته مخصصة لعموم لفظه وهذه النية بخلاف نيته الأولى وهي أن يقصد بعض الأنواع باليمين ويغفل عن غيره بسبب قاعدة وهي أن من شرط المخصص أن يكون منافيا للمخصص ومتى لم تكن النية منافية لم تكن مخصصة وكذلك المخصصات اللفظية إذا لم تكن معارضة لا تكون مخصصة وقصده بدخول البعض في يمينه مع غفلته عن بقية أنواع اللفظ ليس منافيا لشيء من اللفظ بل كاستعمال اللفظ في بعض مسمياته وفي البعض المغفول عنه لا مؤكد ولا مناف فلم توجد حقيقة المخصص لفوات الشرط الذي هو المنافاة والغفلة عن هذا الشرط هي سبب الغلط عند من غلط في ذلك فبمجرد ما يسمع المستفتي يقول نويت الكتان يقول له لا تحنث بغيره وما علم أنه لا يمنع الحنث بغير الكتان إلا القصد إليه بإخراجه عن اليمين فإذا لم يقصد إخراجه بقي مندرجا في عموم اللفظ والنية التي ذكرها إنما هي موافقة للفظه [ ص: 180 ] في بعض أنواعه مؤكدة له فيه لا منافية له في شيء من أنواع مسمى اللفظ ألبتة فالمعتبر في تخصيص العموم في الأيمان إنما هو القصد إلى إخراج بعض الأنواع عن العموم لا القصد إلى دخول بعض الأنواع في العموم فإن الأول مناف ومخصص دون الثاني فإنه موافق مؤكد ففات فيه شرط التخصيص فلا يكون ذلك مخصصا ونظير ذلك من المخصصات اللفظية أن يقول الله تعالى اقتلوا الكفار واقتلوا اليهود فلا نقول إن قوله اقتلوا اليهود مخصص لعموم قوله اقتلوا الكفار بل مؤكد لعموم اللفظ في بعض أنواعه وهم اليهود ولو قال لا تقتلوا أهل الذمة لكان مخصصا لعموم بعض أنواعه وهم اليهود لحصول المنافاة بينهما فكذلك النية .

فمتى قال المستفتى نويت كذا فانظر لنيته تلك هل هي مخرجة منافية لعموم اللفظ في بعض أنواعه أم لا فإن وجدتها منافية مخرجة فاجعلها مخصصة ولا تحنثه بما نوى إخراجه عن اليمين وإن لم تجدها مخرجة فقل لا أثر لها ألبتة إلا التأكيد وليست من باب المخصصات ومتى لم تجر على هذا القانون أخطأت [ ص: 181 ]

فإن قلت يرد على ما ذكرته سؤالان أحدهما أن العلماء على استعمال العام في الخاص وأنه جائز ولا معنى له إلا ما أنكرته وثانيهما أن قوله والله لا لبست ثوبا ونوى الكتان وغفل عن غيره هو بمنزلة ما لو صرح بذلك فقال والله لا لبست ثوبا كتانا وهو غافل عن غير الكتان فإنه لا يحنث بغير الكتان إجماعا فكذلك ما نحن فيه قلت الجواب عن الأول أنا لا نسلم أن معنى قول العلماء يجوز استعمال العام في الخاص هو ما ذكرته بل معناه أن يطلق اللفظ ويخرج بعض مسمياته عن الحكم المستند إلى العموم أما قصد بعض العموم دون البعض فليس ذلك استعمال العموم في الخصوص بل استعمال العموم في العموم وأكد بالنية في الخصوص وعن الثاني أن هذا السؤال حسن قوي .

ومع ذلك فهو [ ص: 182 ] باطل بسبب قاعدة تقدم ذكرها وهي أن العرب إذا ألحقت بلفظ يستقل بنفسه لفظا لا يستقل بنفسه صار اللفظ المستقل بنفسه غير مستقل بنفسه نحو عندي عشرة إلا اثنين فإن الاستثناء لفظ لا يستقل بنفسه .

فإذا اتصل بلفظ العشرة المستقل بنفسه صيره غير مستقل بنفسه ولا نقرر اللفظ الأول ونلزمه العشرة ويعد نادما بقوله إلا اثنين بل نقول الأول لا يثبت له حكم ألبتة إلا مع الثاني والكلام بآخره وهو موقوف حتى يسكت فيتم الأول أو يأتي بعده بما لا يستقل بنفسه فيتعين ضمه إليه أما لو جاء بكلام يستقل بنفسه بأن يقول له عندي عشرة ورددتها إليه ألزمناه العشرة لأن اللفظ الثاني لو نطق به وحده استقل بنفسه فلا حاجة إلى ضمه إلى الأول وإذا كنا نبطل اللفظ المستقل بنفسه بسبب إن اتصل به ما لا يستقل بنفسه في الأقارير التي هي أضيق من غيرها فأولى في الأيمان وغيرها إذا تقرر هذا فنقول اللفظ الأول وهو قوله لا لبست ثوبا مستقل بنفسه لكنه لحقه قوله كتانا وهو لا يستقل بنفسه صيره غير مستقل بنفسه فبطل عمومه وصار الكلام بآخره ولم يتقرر من الأول حكم فلم ينطق إلا بالكتان في حلفه وبقي غير الكتان غير محلوف عليه فلا نحنثه به وأما النية فليس فيها ذلك ولا تشملها هذه القاعدة ولا تتوقف الألفاظ الصريحة عليها وإذا لحقت لم تعكر على عموم بالتخصيص إلا أن تتعلق بإخراج بعض أفراده إما بتقرير الحكم في بعض الأفراد فلا لأنها مؤكدة [ ص: 183 ]

فإن قلت فلم تجعل الصفة اللاحقة للعموم مؤكدة للعموم في بعض أنواعه وهو الكتان ويبقى اللفظ على عمومه في غير الكتان فيحنث بغيره والتأكيد كما يتصور بالنية يتصور باللفظ فإن العرب تؤكد بالألفاظ إجماعا كذكر الشيء مرتين وقولهم قبضت المال كله نفسه وألفاظ التأكيد كثيرة أسماء وحروف كان وأن واللام نحو إن زيدا لقائم فتكون الصفة المؤكدة للعموم في بعض أنواعه فيبقى على عمومه في غير ذلك النوع كما قلته في النية حرفا بحرف فإن جعلتها أعني الصفة مخصصة مع صلاحيتها للتأكيد لزمك أن تجعل النية مخصصة مع صلاحيتها للتأكيد وغايته في الصفة إن نطق بصفة بعض الأنواع كما نوى هاهنا بعض الأنواع فيكون الكل مؤكدا أو الكل مخصصا أما جعل الصفة مخصصة والنية غير مخصصة مع أن كليهما لم يتناول غير الكتان بالإخراج فتحكم محض قلت هذا السؤال حسن وقوي وقل من يتفطن له والجواب عنه أن نقول إن هذا ليس من التحكم بل الفرق بين الصفة والنية أن الصفة لفظ له مفهوم مخالفة وهو دلالته على عدم غير المذكور فكان دالا بمفهومه على عدم اندراج غير الكتان في اليمين بدلالة الالتزام التي هي المفهوم والنية ليس لها دلالة ألبتة لا مطابقة ولا تضمن ولا التزام لأنها من المعاني والمعاني مدلولات لا دالة فلم يكن في النية ما يقتضي إخراج غير الكتان فبقي العموم فيه لعموم اللفظ بخلاف الصفة فإنه وجد فيها الدال على الإخراج من جهة دلالة الالتزام وهو مفهوم الصفة [ ص: 184 ] فظهر الفرق .

فإن قلت اعتمدت في هذا الجواب على الفرق بدلالة المفهوم فكان ينبغي أن يتخرج ذلك على الخلاف في دلالة المفهوم فمن قال بها استقام عنده الفرق الذي ذكرته ومن لم يقل بها بطل عنده الفرق ويلزمه التسوية لكن الإجماع منعقد ههنا عند من يقول بالمفهوم وعند من لا يقول بها إنه لا يحنث بغير الكتان إذا قال والله لبست ثوبا كتانا فيحتاج إلى الفرق بين هذا وبين الصفة في غيره فإن الصفة هاهنا ظهر اعتبار المفهوم فيها عند من لم يقل به في غير هذه الصورة قلت إلزام حسن غير أن الفرق عند القائل بعدم المفهوم بينه وبين هذه الصورة أن الصفة ههنا لم تستقل بنفسها فصيرت مع الأصل كلاما واحدا دالا على ما بقي ومخرجا لغير الكتان عن دلالة اللفظ بسبب عدم استقلاله بنفسه بخلاف ما إذا قال صاحب الشرع في كل أربعين شاة شاة فهذا عموم [ ص: 185 ] مستقل بنفسه ولم يجد معه ما يجب أن يصيره غير مستقل بنفسه ويثبت الحكم لجميع أفراده فإذا ورد بعد ذلك قوله عليه السلام { في الغنم السائمة الزكاة } فعند القائل بأن المفهوم ليس بحجة لا يخصص عموم الحديث الأول بمفهوم الصفة في هذا الحديث الثاني وإنما يخصصه به من يقول المفهوم حجة وإنما نظير مسألة الحالف لا لبست ثوبا كتانا قوله عليه السلام { في الغنم السائمة الزكاة } أجمع الناس على تخصيص عموم هذا الموصوف بالصفة اللاحقة له سواء قلنا المفهوم حجة أم لا أما القائل بأن المفهوم حجة فظاهر وأما القائل المفهوم ليس بحجة فيقول هذا الحديث اقتضى وجوب الزكاة في السائمة .

ولم يتعرض للمعلوفة بنفي ولا إثبات ووافق على أن اللفظ الذي فيه الصفة لم يتناول وجوب الزكاة في المعلوفة وغايته إن قال لم يتناول وجوب الزكاة في المعلوفة ولم يتناول عدمه بل المعلوفة في حيز الإعراض عنها ألبتة أما العموم في نفس الحديث المشتمل على الصفة فلم يقل به أحد ولم يعد الحكم منه إلى المعلوفة بل قصره على السائمة بسبب القاعدة المتقدمة وهي أن ما لا يستقل بنفسه يصير المستقل غير مستقل ويسلبه حكم العموم الكائن قبل الصفة ولا يبقى فيه من العموم إلا النوع الذي تشمله الصفة خاصة وهذا مجمع عليه عند القائلين بالمفهوم وعند القائلين بعدمه بسبب القاعدة المذكورة وكان القائل بأن المفهوم ليس بحجة يقول مستندي هذه القاعدة لا المفهوم فتأمل ذلك [ ص: 186 ] وبمجموع هذه الأسئلة والأجوبة يتقرر عندك الفرق الواضح بين النية الخاصة ببعض الأنواع الموافقة للفظ وبين الصفة الخاصة ببعض الأنواع الموافقة للفظ فائدة حسنة المعدود في كتب الأصول من المخصصات المتصلة أربعة خاصة الصفة والاستثناء والغاية والشرط وقد وجدتها بالاستقراء اثني عشر الأربعة المتقدمة وثمانية أخرى وهي الحال وظرف الزمان وظرف المكان والمجرور والتمييز والبدل والمفعول معه والمفعول لأجله فهذه الاثنا عشر ليس فيها واحد يستقل بنفسه ومتى اتصل بما يستقل بنفسه كان عموما أو غيره صيره غير مستقل بنفسه وقد مر تمثيلها في الفرق بين الترتيب بالحقيقة الزمانية والأدوات اللفظية في معنى الترتيب فليطالع من هنالك وهذا آخر الكلام في هذا الفرق وهو من المباحث الجليلة التي يجب التنبيه لها والغفلة عنه توجب الفسوق وخرق الإجماع في الفتيا في دين الله تعالى بما لا يحل بسبب الجهل بهذا الفرق .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

( الفرق التاسع والعشرون بين قاعدة النية المخصصة وبين قاعدة النية المؤكدة إلى قوله والصريح لا يحتاج إلى غيره )

قلت ما قاله من تحنيث الحالف المطلق اللفظ العام الناوي لبعض ما يتناوله الغافل عن سواه فيه نظر ، فإن النية هي أول معتبر في الحالف ثم السبب والبساط والسبب والبساط إذا اقتضيا تقييد اللفظ أو تخصيصه نزل لفظ الحالف على ذلك ولم يحنث بما عداه ولم يكن ذلك كذلك إلا لأن السبب والبساط يدلان على قصده التقييد أو التخصيص فإذا نوى التقييد والتخصيص فهو ما يدل عليه السبب والبساط فلأن يعتبر التقييد والتخصيص المنويان أولى من المستدل عليهما بالسبب والبساط [ ص: 179 ] قال ( وإن أطلق اللفظ العام وقال نويت إخراج بعض أنواعه عن اليمين قلنا لا يحنث بذلك البعض المخرج لأن نيته مخصصة لعموم لفظه ) قلت هذا هو الاستثناء بالنية دون النطق وفيه خلاف قال صاحب الجواهر منشؤه النظر إلى أنه من باب تخصيص العموم فيجزئ بالنية أو النظر إلى حقيقة الاستثناء فلا يجزئ إلا نطقا قلت فتأمل كيف جعل صاحب الجواهر التخصيص بالنية أصلا وذلك مشعر بعدم الخلاف فيه وجعل الاستثناء فرعا محمولا على أنه تخصيص على قول وعلى أنه استثناء على آخر وذلك عكس ما قاله شهاب الدين فإنه ساق التخصيص بالنية مساق المختلف فيه وصوب القول بعدم التخصيص بها حملا على التأكيد وساق الاستثناء بالنية مساق المتفق عليه قال ( وهذه النية بخلاف نية الأولى وهو أن يقصد بعض الأنواع باليمين ويغفل عن غيره بسبب قاعدة وهي أن من شرط المخصص أن يكون منافيا للمخصص ومتى لم تكن النية منافية لم تكن مخصصة إلى قوله [ ص: 180 ] ومتى لم تجر على هذا القانون أخطأت ) قلت أما قوله إن من شرط المخصص أن يكون منافيا للمخصص فصحيح وذلك في تخصيص العموم اللفظي الدال على حكم شرعي من حيث إن المخصص إن لم يكن منافيا احتمل قصد التأكيد وقصد التخصيص على السواء فلا يعدل عن مقتضى العموم مع القول بأنه دليل لمجرد احتمال الخصوص أما إذا كانت المنافاة فيتعين المصير إلى التخصيص لاستحالة التناقض في كلام الشارع وأما قوله ومتى لم تكن النية منافية لا تكون مخصصة فغير مسلم بل الصحيح في النظر أن النية تكون مخصصة وإن لم تكن منافية من جهة أن القواعد الشرعية تقتضي أنه لا تترتب الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات إلا على النيات والقصود وما ليس بمنوي ولا مقصود فهو غير معتد به ولا مؤاخذ بسببه وهذا أمر لا يكاد يجهله أحد من الشرع ولم يحمل شهاب الدين على ما قاله في ذلك [ ص: 181 ] واختاره إلا توهمه أن حكم النيات كحكم الألفاظ الدالة على المدلولات والأمر ليس كما توهم والله أعلم قال ( فإن قلت يرد على ما ذكرته سؤالان أحدهما أن العلماء على استعمال العام في الخاص وأنه جائز ولا معنى له إلا ما أنكرته وثانيهما أن قوله والله لا لبست ثوبا ونوى الكتان وغفل عن غيره هو بمنزلة ما لو صرح بذلك فقال والله لا لبست ثوبا كتانا وهو غافل عن غير الكتان فإنه لا يحنث بغير الكتان إجماعا فكذلك ما نحن فيه ) قلت السؤالان واقعان لازمان قال ( قلت الجواب عن الأول أنا لا نسلم أن معنى قول العلماء يجوز استعمال العام في الخاص إلى قوله وأكد بالنية بالخصوص ) قلت جوابه مجرد دعوى يقابل بمثلها ثم الدليل على أن مراد العلماء ذلك تجويزهم تخصيص العموم بالمنافي وإطباقهم على أن معنى ذلك أن الشارع أراد بلفظ العموم الخصوص لا أنه أراد العموم ثم رفع ذلك بالتخصيص فإنه لو كان ذلك لكان نسخا ولم يقل به أحد فيما علمته بل كلهم يفرقون بين معنى النسخ والتخصيص فظهر صحة قول مخالفه وبطلت دعواه والله أعلم قال

( وعن الثاني أن هذا السؤال حسن قوي ومع ذلك فهو [ ص: 182 ] باطل بسبب قاعدة تقدم ذكرها وهي أن العرب إذا ألحقت بلفظ يستقل بنفسه لفظا لا يستقل بنفسه صار اللفظ المستقل بنفسه غير مستقل بنفسه إلى منتهى قوله وبقي غير الكتان غير محلوف عليه فلا يحنث به ) قلت ما قاله مسلم قال ( وأما النية فليس فيها ذلك ولا تشملها هذه القاعدة ولا تتوقف الألفاظ الصريحة عليها إلى قوله أما بتقرير الحكم في بعض الأفراد فلا لأنها مؤكدة ) قلت ما قاله هنا دعوى وهي عين رأيه ولم يأت عليه بحجة [ ص: 183 ] قال ( فإن قلت فلما لا تجعل الصفة اللاحقة للعموم مؤكدة للعموم في بعض أنواعه وهو الكتان إلى آخر السؤال ) قلت السؤال وارد قال ( قلت هذا السؤال حسن وقوي وقل من يتفطن له ) قلت يكفي اعترافه بقوة السؤال قال ( والجواب عنه أن نقول إن هذا ليس من باب التحكم بل الفرق بين الصفة والنية أن الصفة لفظ له مفهوم مخالفة وهو دلالته على عدم غير المذكور إلى قوله [ ص: 184 ] فظهر الفرق ) قلت بني جوابه في ذلك على المفهوم في قول الحالف والله لا لبست ثوب كتان ولا لبست ثوبا كتانا وهو أضعف أنواع المفهوم وهو مفهوم اللقب .

ولم يقل به إلا الدقاق وسماه مفهوم الصفة من حيث وجده متبعا به في قول القائل ثوبا كتانا وليس بصفة بل هو بدل عند النحاة وبالجملة جوابه في نهاية الضعف قال ( فإن قلت اعتمدت في هذا الجواب على الفرق بدلالة المفهوم إلى آخر السؤال ) قلت هو سؤال وارد قال ( قلت إلزام حسن غير أن الفرق عند القائل بعدم المفهوم بينه وبين هذه الصورة أن الصفة ههنا لم تستقل بنفسها فصيرت مع الأصل كلاما واحدا إلا على ما بقي ومخرجا لغير الكتان عن دلالته اللفظية بسبب عدم استقلاله بنفسه ) قلت لا صفة لموصوف إلا وهي غير مستقلة بنفسها فكان يلزم على مساق قولهم أن ينعقد الإجماع على مفهوم كل صفة وهذا الإخفاء ببطلانه وكون اللفظ مستقلا أو غير مستقل لا مدخل له في القول بالمفهوم ولا في عدم القول به قال ( بخلاف ما إذا قال صاحب الشرع في كل أربعين شاة شاة فهذا عموم [ ص: 185 ] مستقل بنفسه ولم يوجد معه ما يوجب أن يصيره غير مستقل بنفسه إلى قوله وإنما يخصصه به من يقول المفهوم حجة ) قلت ما قاله هنا مسلم ولا يلزم منه مقصوده قال وإنما نظير مسألة الحالف لا لبست ثوبا كتانا قوله عليه السلام { في الغنم السائمة الزكاة } إلى قوله وكان القائل بإن المفهوم ليس بحجة يقول مستندي هذه القاعدة لا المفهوم فتأمل ذلك قلت ما قاله هنا مسلم ولا يلزم منه مقصوده [ ص: 186 ]

قال ( وبمجموع هذه الأسئلة والأجوبة يتقرر عندك الفرق الواضح بين النية الخاصة ببعض الأنواع الموافقة للفظ وبين الصفة الخاصة ببعض الأنواع الموافقة للفظ ) قلت لم يتقرر ما قال على الوجه الذي زعم بل لا فرق إلا من جهة المفهوم ولا قائل به في مثل مسألة الحالف إلا من لم يعتبر قوله والله أعلم قال ( فائدة المعهود في كتب الأصول من المخصصات المتصلة أربعة خاصة الصفة والاستثناء والغاية والشرط وقد وجدتها بالاستقراء اثني عشر الأربعة المتقدمة وثمانية أخرى إلى قوله وقد تقدم تمثيلها في الفرق بين الترتيب بالحقيقة الزمانية والأدوات اللفظية في معنى الترتيب فليطالع من هناك ) قلت ما قاله في ذلك ظاهر قال ( وهذا آخر الكلام في هذا الفرق وهو من المباحث الجليلة التي يجب التنبيه لها والغفلة عنه توجب الفسوق وخرق الإجماع في الفتيا في دين الله تعالى بما لا يحل بسبب الجهل بهذا الفرق ) قلت لا توجب الغفلة عن هذا الفرق فسوقا ولا خرق إجماع بل لقائل أن يقول التنبيه [ ص: 187 ] لهذا الفرق يوجب ذلك والله أعلم .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق التاسع والعشرون بين قاعدة النية المخصصة وبين قاعدة النية المؤكدة ) الصحيح إبدال المؤكدة بالمخرجة لأن النية لا تكون مؤكدة إلا بناء على ما توهم من أن حكم التخصيص بالنيات كحكم التخصيص بالألفاظ الدالة على المدلولات في اشتراط أن يكون المخصص منافيا للمخصص وإلا احتمال قصد التأكيد وقصد التخصيص على السواء فلا يعدل عن مقتضى العموم مع القول بأنه دليل لمجرد احتمال الخصوص أما إذا كانت المنافاة فيتعين المصير إلى التخصيص لاستحالة التناقض في كلام الشارع والأمر ليس كما توهم بل الصحيح في النظر أن النية تكون مخصصة وإن لم تكن منافية من جهة أن القواعد الشرعية تقتضي أنه لا تترتب الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات إلا على النيات والقصود وما ليس بمنوي ولا مقصود فهو غير معتد به ولا مؤاخذ بسببه وهذا أمر لا يكاد يجهله أحد من الشرع نعم إذا أطلق المطلق اللفظ العام ولا نية له ولا بساط ولا عادة صارفة حنثناه بكل فرد من أفراد العموم للوضع الصريح في ذلك وإن أطلقه ونوى جميع أفراده بيمينه حنثناه بكل فرد من أفراد العموم كذلك بالأولى للوضع الصريح في ذلك مع النية المؤكدة له وإن أطلقه ونوى بعض أفراده لفظه العام باليمين وغفل عن البعض الآخر فلم يتعرض له بنفي ولا إثبات حنثناه باللفظ المنوي ولم نحنثه بما عداه لأن نية الحالف أول معتبر فيما [ ص: 193 ] تقتضيه من تقييد لفظه المطلق وتخصيص لفظ العام ثم السبب والبساط وذلك لأنه إذا أنزل لفظ الحالف على ما يقتضيه السبب والبساط من تقييد اللفظ أو تخصيصه ولم يحنث بما عداه مع أن ذلك لم يكن كذلك إلا لأن السبب والبساط يدلان على قصد الحالف التقييد أو التخصيص فلأن يعتبر التقييد والتخصيص المنويان أولى من المستدل عليهما بالسبب والبساط فافهم .

وإن أطلق المطلق اللفظ العام وقال نويت إخراج بعض أنواعه عن اليمين كان استثناء بالنية دون النطق وفيه خلاف هل يجزئ أو لا قال صاحب الجواهر منشؤه أي الخلاف النظر إلى أنه من باب تخصيص العموم فيجزئ بالنية أو النظر إلى حقيقة الاستثناء فلا يجزئ إلا نطقا ا هـ فظهر من هذا أن سر الفرق بين النية المخصصة تعتبر بلا خلاف وبين النية المخرجة هل تعتبر أو لا خلاف هو أن النية المخصصة لما كانت أصلا يقاس عليه غيره كانت نصا في التخصيص لا تحتمل غيره فاعتبرت فيه بلا خلاف والنية المخرجة لما كانت تحتمل أنها من قبيل النية المخصصة أو من قبيل الاستثناء بالنية دون النطق جرى الخلاف في اعتبارها في التخصيص نظرا للاحتمال الأول أو عدم اعتبارها نظرا للثاني هذا تحقيق المقام على ما حرره ابن الشاط وبه يسقط جميع ما ذكره الأصل بناء على الوهم المار ذكره والله أعلم




الخدمات العلمية