الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 245 ] مسألة فيمن قال:

إن عليا أشجع من أبي بكر [ ص: 246 ] [ ص: 247 ] مسألة

في رجلين تكلما فقال أحدهما: إن عليا أشجع من أبي بكر، وقال آخر: [إن] أبا بكر أشجع الصحابة.

الجواب

الحمد لله. الذي عليه سلف الأمة وأئمتها أن أبا بكر الصديق أعلم الصحابة وأدين الصحابة وأشجع الصحابة وأكرم الصحابة، وقد بسط هذا في الكتب الكبار وبين ذلك بالدلائل الواضحة. وذلك أن الشجاعة ليست [عند] أهل العلم بها كثرة القتل باليد ولا قوة البدن، فإن نبينا - صلى الله عليه وسلم - أشجع الخلق، كما قال علي بن أبي طالب : كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم كنا نتقي برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان يكون أقرب إلى القوم منا. وقد انهزم أصحابه يوم حنين وهو على بغله يسوقها نحو العدو، ويتسمى بحيث لا يخفي نفسه، ويقول:


أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب



ومع هذا فلم يقتل بيده إلا واحدا، وهو أبي بن خلف، قتله يوم أحد.

وكان في الصحابة من هو أكثر قتلا من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وإن كان لا يفضل عليهم في الشجاعة، مثل البراء بن مالك أخي أنس بن مالك، فإنه قتل مئة رجل مبارزة غير من شرك في دمه. [ ص: 248 ]

ولم يقتل أحد من الخلفاء على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا العدد، بل ولا حمزة سيد الشهداء -الذي يقال: إنه أسد الله ورسوله- لم يقتل هذا العدد، وهو في الشجاعة إلى الغاية. وكذلك الزبير بن العوام هو في الشجاعة إلى الغاية، حتى قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "إن لكل نبي حواريا، وحواريي الزبير" ، ولم يقتل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا العدد.

وغزوات النبي - صلى الله عليه وسلم - وسراياه مضبوطة عند أهل العلم بالسيرة والحديث، والله تعالى كان يبارك لنبيه وأصحابه في مغازيهم، فمع العمل القليل يظهر الإسلام وتفشو الدعوة ويدخلون في دين الله أفواجا. ومجموع من قتل الصحابة كلهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يبلغون ألف نفس، بل أقل من ذلك، ومع هذا ببركة الإيمان فتحت أرض العرب كلها في حياته.

وكان القتل يوم بدر، وهي أول مغازي القتال، وأسروا منها سبعين أو نحوها. وأما يوم أحد فقتل الكفار قليلا جدا، وكذلك يوم الخندق ويوم فتح مكة، والقتلى في خيبر وحنين ليسوا بالكثير. وأعظم عددا قتلوا جميعا قتلى قريظة، فإنهم بلغوا ثلاث مئة أو أربع مئة قتلهم جميعا.

وجملة مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم - بضع وعشرون غزاة، وكان القتال فيها في تسع: مغازي بدر وأحد والخندق وبني المصطلق وقريظة وخيبر والفتح وحنين والطائف، وأعظم ما كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم تبوك بلغوا عشرات ألوف، ولكن لم يكن في تبوك قتال، بل أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة، وكان قد جاء لقتال النصارى من الروم والعرب وغيرهم، فلم يقدموا على قتاله. [ ص: 249 ]

وأما هذه المحاربات التي يذكرها الكذابون، وكثرة القتلى التي يذكرها أهل الفرية، فكذبها معروف عند كل عالم. وإذا كان القتلى نحوا ممن ذكروا [و] المقاتلة في الصحابة كثيرون من المهاجرين والأنصار، مثل عمر وعلي وحمزة والزبير والمقداد وأمثالهم، ومثل أبي أيوب وأبي طلحة وأبي قتادة وأبي دجانة، ثم مثل خالد بن الوليد وأمثاله، وقتل الواحد من هؤلاء يقارب قتل عمر وعلي وغيرهما، ينقص عنه أو يزيد عنه، ولهذا لما جاء علي رضي الله عنه أخذ بسيفه إلى فاطمة وقال: اغسليه عن دمهم، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن تكن أحسنت فقد أحسن فلان وفلان" وسمى طائفة من المسلمين-: علم أنه لم يمتنع أن يكون أحد من الخلفاء قتل مئة من الكفار مع النبي - صلى الله عليه وسلم -.

وأما خالد بن الوليد والبراء بن مالك وأمثالهما فهؤلاء قتل الواحد منهم مئة وأكثر، لمغازيهم بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم لما غزوا أهل الردة وفارس والروم كان القتلى من الكفار كثيرا جدا لكثرة الجموع. والخلفاء الراشدون لم يغز أحد منهم بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا باشر بنفسه قتال الكفار بعده، وإنما كانوا هم أولي الأمر، فكان أبو بكر يشاور عمر وعثمان وعليا وغيرهم، وكذلك عمر كان يشاور هؤلاء وغيرهم، وهم عنده. ولكن الزبير بن العوام شهد فتح مصر، وسعد ابن أبي وقاص فتح العراق، وأبو عبيدة بن الجراح فتح الشام.

وإذا تبين هذا فالشجاعة هي ثبات القلب وقوته، وقوة الإقدام [ ص: 250 ] على العدو، والبعد عن الجزع والخوف، فهي صفة تتعلق بالقلب، وإلا فالرجل قد يكون بدنه أقوى الأبدان، وهو من أقدر الناس على الضرب والطعن والرمي، وهو ضعيف القلب جبان، وهذا عاجز. وقد يكون الرجل يقتل بيده خلقا كثيرا، وإذا دهمته الأمور الكبار مالت عليه الأعداء، فيضعف عنهم أو يخاف.

وأبو بكر الصديق كان أقوى الصحابة قلبا وأربطهم جأشا وأعظمهم ثباتا وأشدهم إقداما وأبعدهم عن الجزع والضعف والجبن، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصحبه وحده في المواضع التي يكون أخوف ما يكون فيها، كما صحبه في الهجرة، وكان معه في الغار، والأعداء يطلبهما ويبذل ديتهما لمن يأتي بهما، وكان معه في العريش يوم بدر وحده والكفار قاصدون الرسول خصوصا. ولهذا لما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - ظهر من شجاعته وبسالته وصبره وثباته وسياسته وتدبيره وإمامته للدين وقمعه للمرتدين ومعونته للمؤمنين وسد ظهورهم ما لا تتسع هذه الورقة. وكل من له بالشجاعة أدنى خبرة يعلم أنه لم يكن منهم من يقاربه في الشجاعة فضلا أن يشاريه. وكذلك كان عمر، كان أشجعهم بعده، كما أن أبا بكر كان أعلمهم، كما ذكر الإمام منصور بن عبد الجبار السمعاني إجماع العلماء على أن أبا بكر أعلم الأمة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو مبسوط في غير هذا الموضع . والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية