الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ أيا ]

                                                          أيا : أي : حرف استفهام عما يعقل وما لا يعقل ، وقوله :


                                                          وأسماء ، ما أسماء ليلة أدلجت إلي ، وأصحابي بأي وأينما



                                                          فإنه جعل أي اسما للجهة ، فلما اجتمع فيه التعريف والتأنيث منعه الصرف ، وأما أينما فهو مذكور في موضعه ؛ وقال الفرزدق :


                                                          تنظرت نصرا والسماكين أيهما     علي من الغيث استهلت مواطره



                                                          إنما أراد أيهما ، فاضطر فحذف كما حذف الآخر في قوله :


                                                          بكى ، بعينيك ، واكف القطر     ابن الحواري العالي الذكر



                                                          إنما أراد : ابن الحواري ، فحذف الأخيرة من ياءي النسب اضطرارا . وقالوا : لأضربن أيهم أفضل ؛ أي مبنية عند سيبويه ، فلذلك لم يعمل فيها الفعل ، قال سيبويه : وسألت الخليل عن أيي وأيك كان شرا فأخزاه الله فقال : هذا كقولك أخزى الله الكاذب مني ومنك ، إنما يريد منا ، فإنما أراد أينا كان شرا ، إلا أنهما لم يشتركا في أي ، ولكنهما أخلصاه لكل واحد منهما ؛ التهذيب : قال سيبويه سألت الخليل عن قوله :


                                                          فأيي ما ، وأيك كان شرا     فسيق إلى المقامة لا يراها



                                                          فقال : هذا بمنزلة قول الرجل الكاذب مني ومنك فعل الله به ؛ وقال غيره : إنما يريد أنك شر ولكنه دعا عليه بلفظ هو أحسن من التصريح ، كما قال الله تعالى : وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ؛ وأنشد المفضل :


                                                          لقد علم الأقوام أيي وأيكم     بني عامر أوفى وفاء وأظلم



                                                          معناه : علموا أني أوفى وفاء وأنتم أظلم ، قال : وقوله فأيي ما وأيك ، أي موضع رفع لأنه اسم كان ، وأيك نسق عليه ، وشرا خبرها ، قال : [ ص: 204 ] وقوله :


                                                          فسيق إلى المقامة لا يراها



                                                          أي عمي ، دعاء عليه . وفي حديث أبي ذر أنه قال لفلان : أشهد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إني أو إياك فرعون هذه الأمة ؛ يريد أنك فرعون هذه الأمة ، ولكنه ألقاه إليه تعريضا لا تصريحا ، وهذا كما تقول : أحدنا كاذب ، وأنت تعلم أنك صادق ولكنك تعرض به . أبو زيد : صحبه الله أيا ما توجه ؛ يريد أينما توجه . التهذيب : روي عن أحمد بن يحيى والمبرد قالا : لأي ثلاثة أصول : تكون استفهاما ، وتكون تعجبا ، وتكون شرطا ؛ وأنشد :


                                                          أيا فعلت ، فإنني لك كاشح     وعلى انتقاصك في الحياة ، وأزدد



                                                          قالا جزم قوله : وأزدد على النسق على موضع الفاء التي في فإنني ، كأنه قال : أيا تفعل أبغضك وأزدد ؛ قالا : وهو مثل معنى قراءة من قرأ : فأصدق وأكن ، فتقدير الكلام إن تؤخرني أصدق وأكن ، قالا : وإذا كانت أي استفهاما لم يعمل فيها الفعل الذي قبلها ، وإنما يرفعها أو ينصبها ما بعدها . قال الله عز وجل : لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا ؛ قال المبرد : فأي رفع ، وأحصى رفع بخبر الابتداء . وقال ثعلب : أي رافعه أحصى ، وقالا : عمل الفعل في المعنى لا في اللفظ ، كأنه قال لنعلم أيا من أي ، ولنعلم أحد هذين قالا : وأما المنصوبة بما بعدها فقوله : وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ؛ نصب أيا بينقلبون . وقال الفراء : أي إذا أوقعت الفعل المتقدم عليها خرجت من معنى الاستفهام ، وذلك إن أردته جائز ، يقولون لأضربن أيهم يقول ذلك . لأن الضرب على اسم يأتي بعد ذلك استفهام ، وذلك أن الضرب لا يقع اثنين ، قال : وقول الله عز وجل : ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا ؛ من نصب أيا أوقع عليها النزع ، وليس باستفهام ، كأنه قال لنستخرجن العاتي الذي هو أشد ، ثم فسر الفراء وجه الرفع وعليه القراء على ما قدمناه من قول ثعلب والمبرد . وقال الفراء : وأي إذا كانت جزاء فهي على مذهب الذي قال : وإذا كان أي تعجبا لم يجاز بها لأن التعجب لا يجازى به ، وهو كقولك أي رجل زيد وأي جارية زينب ، قال : والعرب تقول أي وأيان وأيون ، إذا أفردوا أيا ثنوها وجمعوها وأنثوها فقالوا أية وأيتان وأيات ، وإذا أضافوها إلى ظاهر أفردوها وذكروها فقالوا أي الرجلين وأي المرأتين وأي الرجال وأي النساء ، وإذا أضافوا إلى المكني المؤنث ذكروا وأنثوا فقالوا أيهما وأيتهما للمرأتين ، وفي التنزيل العزيز : أيا ما تدعوا ؛ وقال زهير في لغة من أنث :


                                                          وزودوك اشتياقا أية سلكوا



                                                          أراد : أية وجهة سلكوا ، فأنثها حين لم يضفها ، قال : ولو قلت أيا سلكوا بمعنى أي وجه سلكوا كان جائزا . ويقول لك قائل : رأيت ظبيا ، فتجيبه : أيا ، ويقول : رأيت ظبيين ، فتقول : أيين ، ويقول : رأيت ظباء ، فتقول : أيات ، ويقول : رأيت ظبية ، فتقول : أية . قال : وإذا سألت الرجل عن قبيلته قلت الميي ، وإذا سألته عن كورته قلت الأيي ، وتقول ميي أنت وأيي أنت ، بياءين شديدتين . وحكى الفراء عن العرب في لغية لهم : أيهم ما أدرك يركب على أيهم يريد . وقال الليث : أيان ، هي بمنزلة متى ، قال : ويختلف في نونها ، فيقال أصلية ، ويقال زائدة . وقال الفراء : أصل أيان أي أوان فخففوا الياء من أي وتركوا همزة أوان فالتقت ياء ساكنة بعدها واو فأدغمت الواو في الياء ؛ حكاه عن الكسائي ، قال : وأما قولهم في النداء أيها الرجل وأيتها المرأة وأيها الناس ، فإن الزجاج قال : أي اسم مبهم مبني على الضم من أيها الرجل لأنه منادى مفرد ، والرجل صفة لأي لازمة ، تقول يا أيها الرجل أقبل ، ولا يجوز يا الرجل ، لأن يا تنبيه بمنزلة التعريف في الرجل فلا يجمع بين يا وبين الألف واللام فتصل إلى الألف واللام بأي ، وها لازمة لأي للتنبيه ، وهي عوض من الإضافة في أي ، لأن أصل أي أن تكون مضافة إلى الاستفهام والخبر ، والمنادى في الحقيقة الرجل وأي وصلة إليه ، وقال الكوفيون : إذا قلت يا أيها الرجل ، فيا نداء ، وأي اسم منادى ، وها تنبيه ، والرجل صفة ، قالوا ووصلت أي بالتنبيه فصارا اسما تاما لأن أيا وما ومن والذي أسماء ناقصة لا تتم إلا بالصلات ، ويقال الرجل تفسير لمن نودي . وقال أبو عمرو : سألت المبرد عن أي ، مفتوحة ساكنة ، ما يكون بعدها فقال : يكون الذي بعدها بدلا ، ويكون مستأنفا ويكون منصوبا ؛ قال : وسألت أحمد بن يحيى فقال : يكون ما بعدها مترجما ، ويكون نصبا بفعل مضمر ، تقول : جاءني أخوك أي زيد ، ورأيت أخاك أي زيدا ، ومررت بأخيك أي زيد . ويقال : جاءني أخوك فيجوز فيه أي زيد وأي زيدا ، ويقال : رأيت أخاك أي زيدا ويجوز أي زيد . وقال الليث : إي يمين ، قال الله عز وجل : قل إي وربي إنه لحق ؛ والمعنى إي والله ؛ قال الزجاج : قل إي وربي إنه لحق ، المعنى نعم وربي ، قال : وهذا هو القول الصحيح ، وقد تكرر في الحديث إي والله ، وهي بمعنى نعم ، إلا أنها تختص بالمجيء مع القسم إيجابا لما سبقه من الاستعلام . قال سيبويه : وقالوا كأين رجلا قد رأيت ، زعم ذلك يونس ، وكأين قد أتاني رجلا ، إلا أن أكثر العرب إنما يتكلمون مع من ، قال : وكأين من قرية ، قال : ومعنى كأين : رب ، قال : وإن حذفت من فهو عربي ؛ وقال الخليل : إن جرها أحد من العرب فعسى أن يجرها بإضمار من ، كما جاز ذلك في كم ، قال : وقال الخليل كأين عملت فيما بعدها كعمل أفضلهم في رجل فصار أي بمنزلة التنوين ، كما كان هم من قولهم أفضلهم بمنزلة التنوين ، قال : وإنما تجيء الكاف للتشبيه فتصير هي وما بعدها بمنزلة شيء واحد . وكائن بزنة كاعن مغير من قولهم كأين . قال ابن جني : إن سأل سائل فقال ما تقول في كائن هذه وكيف حالها وهل هي مركبة أو بسيطة ؟ فالجواب إنها مركبة قال : والذي علقته عن أبي علي أن أصلها كأين كقوله تعالى : وكأين من قرية ؛ ثم إن العرب تصرفت في هذه الكلمة لكثرة استعمالها إياها ، فقدمت الياء المشددة وأخرت الهمزة ، كما فعلت ذلك في عدة مواضع نحو قسي وأشياء في قول الخليل ، وشاك ولاث ونحوهما في قول [ ص: 205 ] الجماعة ، وجاء وبابه في قول الخليل أيضا وغير ذلك ، فصار التقدير فيما بعد كيئ ، ثم إنهم حذفوا الياء الثانية ، تخفيفا ، كما حذفوها في نحو ميت ، وهين ولين فقالوا ميت ، وهين ولين فصار التقدير كيئ ، ثم إنهم قلبوا الياء ألفا لانفتاح ما قبلها كما قلبوا في طائي وحاري ، وآية في قول الخليل أيضا فصارت كائن . وفي كأين لغات : يقال كأين وكائن وكأي ، بوزن رمي ، وكأ بوزن عم ؛ حكى ذلك أحمد بن يحيى ، فمن قال كأين فهي أي دخلت عليها الكاف ، ومن قال كائن فقد بينا أمره ، ومن قال كأي بوزن رمي فأشبه ما فيه أنه لما أصاره التغيير على ما ذكرنا إلى كيء ، قدم الهمزة وأخر الياء ولم يقلب الياء ألفا ، وحسن ذلك ضعف هذه الكلمة وما اعتورها من الحذف والتغيير ، ومن قال كأ بوزن عم ، فإنه حذف الياء من كيء تخفيفا أيضا ، فإن قلت : إن هذا إجحاف بالكلمة لأنه حذف بعد حذف ، فليس ذلك بأكثر من مصيرهم بأيمن الله إلى من الله وم الله ، فإذا كثر استعمال الحذف حسن فيه ما لا يحسن في غيره من التغيير والحذف . وقوله عز وجل : وكأين من قرية ؛ فالكاف زائدة كزيادتها في كذا وكذا ، وإذا كانت زائدة فليست متعلقة بفعل ولا معنى فعل . وتكون أي جزاء ، وتكون بمعنى الذي ، والأنثى من كل ذلك أية ، وربما قيل : أيهن منطلقة ، يريد أيتهن ؛ وأي : استفهام فيه معنى التعجب فيكون حينئذ صفة للنكرة وحالا للمعرفة نحو ما أنشده سيبويه للراعي :


                                                          فأومأت إيماء خفيا لحبتر     ولله عينا حبتر أيما فتى



                                                          أي أيما فتى هو ، يتعجب من اكتفائه وشدة غنائه . وأي : اسم صيغ ليتوصل به إلى نداء ما دخلته الألف واللام ، كقولك يا أيها الرجل ويا أيها الرجلان ويا أيها الرجال ، ويا أيتها المرأة ويا أيتها المرأتان ويا أيها النسوة ويا أيها المرأة ويا أيها المرأتان ويا أيها النسوة . وأما قوله عز وجل : ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده ؛ فقد يكون على قولك يا أيها المرأة ويا أيها النسوة ، وأما ثعلب فقال : إنما خاطب النمل بيا أيها ، لأنه جعلهم كالناس ، فقال : ياأيها النمل ، كما تقول للناس : يا أيها الناس ، ولم يقل ادخلي لأنها كالناس في المخاطبة ، وأما قوله : ياأيها الذين آمنوا ، فيا أي : نداء مفرد مبهم والذين في موضع رفع صفة لأيها ، هذا مذهب الخليل وسيبويه ، وأما مذهب الأخفش ، فالذين صلة لأي ، وموضع الذين رفع بإضمار الذكر العائد على أي ، كأنه على مذهب الأخفش بمنزلة قولك : يا من الذي ، أي يا من هم الذين ، وها لازمة لأي عوضا مما حذف منها للإضافة وزيادة في التنبيه ، وأجاز المازني نصب صفة أي في قولك يا أيها الرجل أقبل ، وهذا غير معروف ، وأي في غير النداء لا يكون فيها ها ، ويحذف معها الذكر العائد عليها ، تقول : اضرب أيهم أفضل ، وأيهم أفضل ، تريد اضرب أيهم هو أفضل . الجوهري : أي اسم معرب يستفهم بها ويجازى بها فيمن يعقل وما لا يعقل ، تقول أيهم أخوك . وأيهم يكرمني أكرمه ، وهو معرفة للإضافة ، وقد تترك الإضافة وفيه معناها ، وقد تكون بمنزلة الذي فتحتاج إلى صلة ، تقول أيهم في الدار أخوك ، قال ابن بري : ومنه قول الشاعر :


                                                          إذا ما أتيت بني مالك     فسلم على أيهم أفضل



                                                          قال : ويقال لا يعرف أيا من أي إذا كان أحمق ، وأما قول الشاعر :


                                                          إذا ما قيل أيهم لأي     تشابهت العبدى والصميم



                                                          فتقديره : إذا قيل أيهم لأي ينتسب ، فحذف الفعل لفهم المعنى ، وقد يكون نعتا ، تقول : مررت برجل أي رجل وأيما رجل ، ومررت بامرأة أية امرأة وبامرأتين أيتما امرأتين ، وهذه امرأة أية امرأة وأيتما امرأتين ، وما زائدة . وتقول : هذا زيد أيما رجل ، فتنصب أيا على الحال ، وهذه أمة الله أيتما جارية . وتقول : أي امرأة جاءتك وجاءك ، وأية امرأة جاءتك ، ومررت بجارية أي جارية ، وجئتك بملاءة أي ملاءة وأية ملاءة ، كل جائز وفي التنزيل العزيز : وما تدري نفس بأي أرض تموت . وأي : قد يتعجب بها ؛ قال جميل :


                                                          بثين الزمي لا ، إن لا ، إن لزمته     على كثرة الواشين ، أي معون



                                                          قال الفراء : أي يعمل فيه ما بعده ، ولا يعمل فيه ما قبله . وفي التنزيل العزيز : لنعلم أي الحزبين أحصى ؛ فرفع وفيه أيضا : وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ؛ فنصبه بما بعده ؛ وأما قول الشاعر :


                                                          تصيح بنا حنيفة ، إذ رأتنا     وأي الأرض تذهب للصياح



                                                          فإنما نصبه لنزع الخافض ، يريد إلى أي الأرض . قال الكسائي : تقول لأضربن أيهم في الدار ، ولا يجوز أن تقول ضربت أيهم في الدار ، ففرق بين الواقع والمنتظر ، قال : وإذا ناديت اسما فيه الألف واللام أدخلت بينه وبين حرف النداء أيها ، فتقول يا أيها الرجل ، ويا أيتها المرأة ، فأي اسم مبهم مفرد معرفة بالنداء مبني على الضم ، وها حرف تنبيه ، وهي عوض مما كانت أي تضاف إليه ، وترفع الرجل لأنه صفة أي . قال ابن بري عند قول الجوهري : وإذا ناديت اسما فيه الألف واللام أدخلت بينه وبين حرف النداء أيها ، قال : أي وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام في قولك يا أيها الرجل ، كما كانت إيا وصلة المضمر في إياه وإياك في قول من جعل إيا اسما ظاهرا مضافا ، على نحو ما سمع من قول بعض العرب : إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب ؛ قال : وعليه قول أبي عيينة :


                                                          فدعني وإيا خالد     لأقطعن عرى نياطه



                                                          ، وقال أيضا :


                                                          فدعني وإيا خالد بعد ساعة     سيحمله شعري على الأشقر الأغر



                                                          وفي حديث كعب بن مالك : فتخلفنا أيتها الثلاثة ؛ يريد تخلفهم عن غزوة تبوك وتأخر توبتهم . قال : وهذه اللفظة تقال في الاختصاص وتختص بالمخبر عن نفسه والمخاطب ، تقول أما أنا فأفعل كذا أيها [ ص: 206 ] الرجل ، يعني نفسه ، فمعنى قول كعب أيتها الثلاثة أي المخصوصين بالتخلف . وقد يحكى بأي النكرات ما يعقل وما لا يعقل ، ويستفهم بها ، وإذا استفهمت بها عن نكرة أعربتها بإعراب الاسم الذي هو استثبات عنه ، فإذا قيل لك : مر بي رجل ، قلت : أي يا فتى ؟ تعربها في الوصل ، وتشير إلى الإعراب في الوقف ، فإن قال : رأيت رجلا ، قلت : أيا يا فتى ؟ تعرب وتنون إذا وصلت وتقف على الألف فتقول أيا ، وإذا قال : مررت برجل ، قلت : أي يا فتى ؟ تعرب وتنون ، تحكي كلامه في الرفع والنصب والجر في حال الوصل والوقف ؛ قال ابن بري : صوابه في الوصل فقط ، فأما في الوقف فإنه يوقف عليه في الرفع والجر بالسكون لا غير ، وإنما يتبعه في الوصل والوقف إذا ثناه وجمعه ، وتقول في التثنية والجمع والتأنيث كما قيل في من ، إذا قال : جاءني رجال ، قلت : أيون ساكنة النون ، وأيين في النصب والجر ، وأيه للمؤنث ؛ قال ابن بري : صوابه أيون بفتح النون ، وأيين بفتح النون أيضا ، ولا يجوز سكون النون إلا في الوقف خاصة ، وإنما يجوز ذلك في من خاصة ، تقول منون ومنين ، بالإسكان لا غير . قال : فإن وصلت قلت أية يا هذا وأيات يا هذا ، نونت ، فإن كان الاستثبات عن معرفة رفعت أيا لا غير على كل حال ، ولا يحكى في المعرفة ليس في أي مع المعرفة إلا الرفع ، وقد يدخل على أي الكاف فتنقل إلى تكثير العدد بمعنى كم في الخبر ويكتب تنوينه نونا ، وفيه لغتان : كائن مثل كاعن ، وكأين مثل كعين ، تقول : كأين رجلا لقيت ، تنصب ما بعد كأين على التمييز ، وتقول أيضا : كأين من رجل لقيت ، وإدخال من بعد كأين أكثر من النصب بها وأجود ، وبكأين تبيع هذا الثوب ؟ أي بكم تبيع ؟ قال ذو الرمة :


                                                          وكائن ذعرنا من مهاة ورامح     بلاد الورى ليست له ببلاد



                                                          قال ابن بري : أورد الجوهري هذا شاهدا على كائن بمعنى كم ، وحكي عن ابن جني قال لا تستعمل الورى إلا في النفي ، قال : وإنما حسن لذي الرمة استعماله في الواجب حيث كان منفيا في المعنى لأن ضميره منفي ، فكأنه قال : ليست له بلاد الورى ببلاد . وأيا : من حروف النداء ، ينادى بها القريب والبعيد تقول أيا زيد أقبل . وأي ، مثال كي : حرف ينادى بها القريب دون البعيد ، تقول أي زيد أقبل ، وهي أيضا كلمة تتقدم التفسير ، تقول أي كذا بمعنى يريد كذا ، كما أن إي بالكسر كلمة تتقدم القسم ، معناها بلى ، تقول إي وربي وإي والله . غيره : أيا حرف نداء ، وتبدل الهاء من الهمزة ، فيقال : هيا ؛ قال :


                                                          فانصرفت ، وهي حصان مغضبه     ورفعت بصوتها : هيا أبه



                                                          قال ابن السكيت : يريد أيا أبه ، ثم أبدل الهمزة هاء ، قال : وهذا صحيح لأن أيا في النداء أكثر من هيا ، قال : ومن خفيفه أي معناه العبارة ، ويكون حرف نداء . وإي : بمعنى نعم وتوصل باليمين ، فيقال إي والله ، وتبدل منها هاء فيقال هي . والآية : العلامة ، وزنها فعلة في قول الخليل ، وذهب غيره إلى أن أصلها أية فعلة ، فقلبت الياء ألفا لانفتاح ما قبلها ، وهذا قلب شاذ كما قلبوها في حاري وطائي إلا أن ذلك قليل غير مقيس عليه ، والجمع آيات وآي ، وآياء جمع الجمع نادر ؛ قال :


                                                          لم يبق هذا الدهر من آيائه     غير أثافيه وأرمدائه



                                                          وأصل آية أوية ، بفتح الواو وموضع العين واو ، والنسبة إليه أووي ، وقيل : أصلها فاعلة فذهبت منها اللام أو العين تخفيفا ، ولو جاءت تامة لكانت آيية . وقوله عز وجل : سنريهم آياتنا في الآفاق ؛ قال الزجاج : معناه نريهم الآيات التي تدل على التوحيد في الآفاق أي آثار من مضى قبلهم من خلق الله عز وجل في كل البلاد وفي أنفسهم من أنهم كانوا نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم عظاما كسيت لحما ، ثم نقلوا إلى التمييز والعقل ، وذلك كله دليل على أن الذي فعله واحد ليس كمثله شيء ، تبارك وتقدس . وتأيا الشيء : تعمد آيته أي شخصه . وآية الرجل : شخصه . ابن السكيت وغيره : يقال تآييته ، على تفاعلته ، وتأييته إذا تعمدت آيته أي شخصه وقصدته ؛ قال الشاعر :


                                                          الحصن أدنى ، لو تأييته     من حثيك الترب على الراكب



                                                          يروى بالمد والقصر ؛ قال ابن بري : هذا البيت لامرأة تخاطب ابنتها ، وقد قالت لها :


                                                          يا أمتي ، أبصرني راكب     يسير في مسحنفر لاحب
                                                          ما زلت أحثو الترب في وجهه     عمدا ، وأحمي حوزة الغائب



                                                          فقالت لها أمها :


                                                          الحصن أدنى ، لو تأييته     من حثيك الترب على الراكب



                                                          قال : وشاهد تآييته قول لقيط بن معمر الإيادي :


                                                          أبناء قوم تآيوكم على حنق     لا يشعرون أضر الله أم نفعا



                                                          ، وقال لبيد :


                                                          فتآيا ، بطرير مرهف     حفرة المحزم منه ، فسعل



                                                          وقوله تعالى : يخرجون الرسول وإياكم ؛ قال أبو منصور : لم أسمع في تفسير إيا واشتقاقه شيئا ، قال : والذي أظنه ، ولا أحقه ، أنه مأخوذ من قوله تآييته على تفاعلته أي تعمدت آيته وشخصه ، وكأن إيا اسم منه على فعلى ، مثل الذكرى من ذكرت ، فكان معنى قولهم إياك أردت أي : قصدت قصدك وشخصك ، قال : والصحيح أن الأمر مبهم يكنى به عن المنصوب . وأيا آية : وضع علامة . وخرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم لم يدعوا وراءهم شيئا ؛ قال برج بن مسهر الطائي :


                                                          خرجنا من النقبين ، لا حي مثلنا      [ ص: 207 ] بآيتنا نزجي اللقاح المطافلا



                                                          والآية : من التنزيل ومن آيات القرآن العزيز ؛ قال أبو بكر : سميت الآية من القرآن آية لأنها علامة لانقطاع كلام من كلام . ويقال : سميت الآية آية لأنها جماعة من حروف القرآن . وآيات الله : عجائبه . وقال ابن حمزة : الآية من القرآن كأنها العلامة التي يفضى منها إلى غيرها كأعلام الطريق المنصوبة للهداية كما قال :


                                                          إذا مضى علم منها بدا علم



                                                          والآية : العلامة . وفي حديث عثمان : أحلتهما آية وحرمتهما آية ؛ قال ابن الأثير : الآية المحلة قوله تعالى : أو ما ملكت أيمانكم ؛ والآية المحرمة قوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ؛ والآية : العبرة ، وجمعها آي . الفراء في كتاب المصادر : الآية من الآيات والعبر ، سميت آية كما قال تعالى : لقد كان في يوسف وإخوته آيات ، أي أمور وعبر مختلفة ، وإنما تركت العرب همزتها كما يهمزون كل ما جاءت بعد ألف ساكنة ، لأنها كانت فيما يرى في الأصل أية ، فثقل عليهم التشديد فأبدلوه ألفا لانفتاح ما قبل التشديد ، كما قالوا أيما لمعنى أما ، قال : وكان الكسائي يقول إنه فاعلة منقوصة ؛ قال الفراء : ولو كان كذلك ما صغرها إيية ، بكسر الألف ؛ قال : وسألته عن ذلك فقال صغروا عاتكة وفاطمة عتيكة وفطيمة ، فالآية مثلهما ، وقال الفراء : ليس كذلك لأن العرب لا تصغر فاعلة على فعيلة إلا أن يكون اسما في مذهب فلانة فيقولون هذه فطيمة قد جاءت إذا كان اسما . فإذا قلت هذه فطيمة ابنها يعني فاطمته من الرضاع لم يجز ، وكذلك صليح تصغيرا لرجل اسمه صالح ، ولو قال رجل لرجل كيف بنتك ؟ قال صويلح ولم يجز صليح لأنه ليس باسم ، قال : وقال بعضهم آية فاعلة صيرت ياؤها الأولى ألفا كما فعل بحاجة وقامة ، والأصل حائجة وقائمة . قال الفراء : وذلك خطأ لأن هذا يكون في أولاد الثلاثة ولو كان كما قالوا لقيل في نواة وحياة ناية وحاية ، قال : وهذا فاسد . وقوله عز وجل : وجعلنا ابن مريم وأمه آية ، ولم يقل آيتين لأن المعنى فيهما معنى آية واحدة ، قال ابن عرفة : لأن قصتهما واحدة ، قال أبو منصور : لأن الآية فيهما معا آية واحدة ، وهي الولادة دون الفحل ؛ قال ابن سيده : ولو قيل آيتين لجاز لأنه قد كان في كل واحد منهما ما لم يكن في ذكر ولا أنثى من أنها ولدت من غير فحل ، ولأن عيسى - عليه السلام - روح الله ألقاه في مريم ولم يكن هذا في ولد قط ، وقالوا : افعله بآية كذا كما تقول بعلامة كذا وأمارته ؛ وهي من الأسماء المضافة إلى الأفعال كقوله :


                                                          بآية تقدمون الخيل شعثا     كأن على سنابكها مداما



                                                          وعين الآية ياء كقول الشاعر :


                                                          لم يبق هذا الدهر من آيائه



                                                          فظهور العين في آيائه يدل على كون العين ياء ، وذلك أن وزن آياء أفعال ، ولو كانت العين واوا لقال آوائه ، إذ لا مانع من ظهور الواو في هذا الموضع . وقال الجوهري : قال سيبويه : موضع العين من الآية واو ، لأن ما كان موضع العين منه واو واللام ياء أكثر مما موضع العين واللام منه ياءان ، مثل شويت أكثر من حييت ، قال : وتكون النسبة إليه أووي ؛ قال الفراء : هي من الفعل فاعلة ، وإنما ذهبت منه اللام ، ولو جاءت تامة لجاءت آيية ، ولكنها خففت ، وجمع الآية آي وآياي وآيات ؛ وأنشد أبو زيد :


                                                          لم يبق هذا الدهر من آيايه



                                                          قال ابن بري : لم يذكر سيبويه أن عين آية واو كما ذكر الجوهري ، وإنما قال : أصلها أية ، فأبدلت الياء الساكنة ألفا ؛ وحكي عن الخليل أن وزنها فعلة ، وأجاز في النسب إلى آية آيي وآئي وآوي ، قال : فأما أووي فلم يقله أحد علمته غير الجوهري . وقال ابن بري أيضا عند قول الجوهري في جمع الآية آياي قال : صوابه آياء ، بالهمز ، لأن الياء إذا وقعت طرفا بعد ألف زائدة قلبت همزة ، وهو جمع آي لا آية . وتأيا أي توقف وتمكث ، تقديره تعيا . ويقال : قد تأييت على تفعلت أي تلبثت وتحبست . ويقال : ليس منزلكم بدار تئية أي بمنزلة تلبث وتحبس ؛ قال الكميت :


                                                          قف بالديار وقوف زائر     وتأي إنك غير صاغر



                                                          ، وقال الحويدرة :


                                                          ومناخ غير تئية عرسته     قمن من الحدثان نابي المضجع



                                                          والتأيي : التنظر والتؤدة . يقال : تأيا الرجل يتأيا تأييا إذا تأنى في الأمر ؛ قال لبيد :


                                                          وتأييت عليه ثانيا     يتقيني بتليل ذي خصل



                                                          أي انصرفت على تؤدة متأنيا ؛ قال أبو منصور : معنى قوله وتأييت عليه أي تثبت وتمكثت ، وأنا عليه يعني على فرسه . وتأيا عليه : انصرف في تؤدة . وموضع مأبي الكلأ أي وخيمه . وإيا الشمس وأياؤها : نورها وضوءها وحسنها ، وكذلك إياتها وأياتها ، وجمعها آياء وإياء كأكمة وإكام ؛ وأنشد الكسائي لشاعر :


                                                          سقته إياة الشمس ، إلا لثاته     أسف ، ولم تكدم عليه بإثمد



                                                          قال الأزهري : يقال الأياء ، مفتوح الأول بالمد ، والإيا ، مكسور الأول بالقصر ، وإياة كله واحد : شعاع الشمس وضوءها ؛ قال : ولم أسمع لها فعلا وسنذكره في الألف اللينة أيضا . وإيا النبات وأياؤه : حسنه وزهره ، على التشبيه . وأيايا وأيايه ويايه ، الأخيرة على حذف الفاء : زجر للإبل ، وقد أيا بها . الليث : يقال أييت بالإبل أؤيي بها تأيية ، إذا زجرتها تقول لها أيا أيا ؛ قال ذو الرمة :


                                                          إذا قال حادينا ، أيا يا اتقينه     بمثل الذرى مطلنفئات العرائك



                                                          أيا : إيا من علامات المضمر ، تقول : إياك وإياه وإياك أن تفعل ذلك وهياك ، الهاء على البدل مثل أراق وهراق ؛ وأنشد الأخفش :

                                                          [ ص: 208 ]

                                                          فهياك والأمر الذي إن توسعت     موارده ضاقت عليك مصادره



                                                          وفي المحكم : ضاقت عليك المصادر ؛ وقال آخر :


                                                          يا خال ، هلا قلت ، إذ أعطيتني     هياك هياك وحنواء العنق



                                                          وتقول : إياك وأن تفعل كذا ، ولا تقل : إياك أن تفعل بلا واو . قال ابن بري : الممتنع عند النحويين إياك الأسد ، ولا بد فيه من الواو ، فأما إياك أن تفعل فجائز على أن تجعله مفعولا من أجله أي : مخافة أن تفعل . الجوهري : إيا اسم مبهم ويتصل به جميع المضمرات المتصلة التي للنصب . تقول : إياك وإياي وإياه وإيانا ، وجعلت الكاف والهاء والياء والنون بيانا عن المقصود ليعلم المخاطب من الغائب ، ولا موضع لها من الإعراب ، فهي كالكاف في ذلك وأرأيتك ، وكالألف والنون التي في أنت فتكون إيا الاسم وما بعدها للخطاب ، وقد صار كالشيء الواحد لأن الأسماء المبهمة وسائر المكنيات لا تضاف لأنها معارف . وقال بعض النحويين : إن إيا مضاف إلى ما بعده ، واستدل على ذلك بقولهم : إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب ، فأضافوها إلى الشواب وخفضوها . وقال ابن كيسان : الكاف والهاء والياء والنون هي الأسماء ، وإيا عماد لها ، لأنها لا تقوم بأنفسها كالكاف والهاء والياء في التأخير في يضربك ويضربه ويضربني . فلما قدمت الكاف والهاء والياء عمدت بإيا ، فصار كله كالشيء الواحد ، ولك أن تقول : ضربت إياي لأنه يصح أن تقول : ضربتني ، ولا يجوز أن تقول : ضربت إياك ، لأنك إنما تحتاج إلى إياك إذا لم يمكنك اللفظ بالكاف ، فإذا وصلت إلى الكاف تركتها . قال ابن بري عند قول الجوهري ولك أن تقول : ضربت إياي لأنه يصح أن تقول : ضربتني ولا يجوز أن تقول ضربت إياك ، قال : صوابه أن يقول : ضربت إياي ، لأنه لا يجوز أن تقول : ضربتني ، ويجوز أن تقول : ضربتك إياك لأن الكاف اعتمد بها على الفعل ، فإذا أعدتها احتجت إلى إيا . وأما قول ذي الإصبع العدواني :


                                                          كأنا يوم قرى إن     نما نقتل إيانا
                                                          قتلنا منهم كل     فتى أبيض حسانا



                                                          فإنه إنما فصلها من الفعل لأن العرب لا توقع فعل الفاعل على نفسه بإيصال الكناية ، لا تقول : قتلتني ، إنما تقول : قتلت نفسي ، كما تقول : ظلمت نفسي فاغفر لي ، ولم تقل : ظلمتني ، فأجرى إيانا مجرى أنفسنا ، وقد تكون للتحذير ، تقول : إياك والأسد ، وهو بدل من فعل كأنك قلت : باعد . قال ابن حري : وروينا عن قطرب أن بعضهم يقول : أياك ، بفتح الهمزة ، ثم يبدل الهاء منها مفتوحة أيضا ، فيقول هياك ، واختلف النحويون في إياك ، فذهب الخليل إلى أن إيا اسم مضمر مضاف إلى الكاف ، وحكي عن المازني مثل قول الخليل . قال أبو علي : وحكى أبو بكر عن أبي العباس عن أبي الحسن الأخفش وأبو إسحاق عن أبي العباس عن منسوب إلى الأخفش أنه اسم مفرد مضمر ، يتغير آخره كما يتغير آخر المضمرات لاختلاف أعداد المضمرين . وأن الكاف في إياك كالتي في ذلك في أنه دلالة على الخطاب فقط مجردة من كونها علامة الضمير ، ولا يجيز الأخفش فيما حكي عنه : إياك وإيا زيد وإياي وإيا الباطل . قال سيبويه : حدثني من لا أتهم عن الخليل أنه سمع أعرابيا يقول : إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب ، وحكى سيبويه أيضا عن الخليل أنه قال : لو أن قائلا قال : إياك نفسك لم أعنفه لأن هذه الكلمة مجرورة . وحكى ابن كيسان قال : قال بعض النحويين : إياك بكمالها اسم ، قال : وقال بعضهم الياء والكاف والهاء هي أسماء وإيا عماد لها لأنها لا تقوم بأنفسها . قال : وقال بعضهم : إيا اسم مبهم يكنى به عن المنصوب ، وجعلت الكاف والهاء والياء بيانا عن المقصود ليعلم المخاطب من الغائب ، ولا موضع لها من الإعراب كالكاف في ذلك وأرأيتك ، وهذا هو مذهب أبي الحسن الأخفش . قال أبو منصور : قوله اسم مبهم يكنى به عن المنصوب يدل على أنه لا اشتقاق له . وقال أبو إسحاق الزجاج : الكاف في إياك في موضع جر بإضافة إيا إليها ، إلا أنه ظاهر يضاف إلى سائر المضمرات ، ولو قلت : إيا زيد حدثت لكان قبيحا لأنه خص بالمضمر ، وحكى ما رواه الخليل من إياه وإيا الشواب . قال ابن جني : وتأملنا هذه الأقوال على اختلافها والاعتلال لكل قول منها فلم نجد فيها ما يصح مع الفحص والتنقير غير قول أبي الحسن الأخفش . أما قول الخليل : إن إيا اسم مضمر مضاف فظاهر الفساد ، وذلك أنه إذا ثبت أنه مضمر لم تجز إضافته على وجه من الوجوه ، لأن الغرض في الإضافة إنما هو التعريف والتخصيص والمضمر على نهاية الاختصاص فلا حاجة به إلى الإضافة . وأما قول من قال : إن إياك بكمالها اسم فليس بقوي ، وذلك أن إياك في أن فتحة الكاف تفيد الخطاب المذكر ، وكسرة الكاف تفيد الخطاب المؤنث ، بمنزلة أنت في أن الاسم هو الهمزة ، والنون والتاء المفتوحة تفيد الخطاب المذكر ، والتاء المكسورة تفيد الخطاب المؤنث . فكما أن ما قبل التاء في أنت هو الاسم والتاء هو الخطاب فكذا إيا اسم والكاف بعدها حرف خطاب . وأما من قال : إن الكاف والهاء والياء في إياك وإياه وإياي هي الأسماء ، وإن إيا إنما عمدت بها هذه الأسماء لقلتها ، فغير مرضي أيضا . وذلك أن إيا في أنها ضمير منفصل بمنزلة أنا وأنت ونحن وهو وهي في أن هذه مضمرات منفصلة ، فكما أن أنا وأنت ونحوهما تخالف لفظ المرفوع المتصل نحو التاء في قمت والنون والألف في قمنا والألف في قاما والواو في قاموا ، بل هي ألفاظ أخر غير ألفاظ الضمير المتصل ، وليس شيء منها معمودا له غيره . وكما أن التاء في أنت ، وإن كانت بلفظ التاء في قمت ، وليست اسما مثلها بل الاسم قبلها هو أن والتاء بعده للمخاطب وليست أن عمادا للتاء ، فكذلك إيا هي الاسم وما بعدها يفيد الخطاب تارة والغيبة تارة أخرى والتكلم أخرى . وهو حرف خطاب كما أن التاء في أنت حرف غير معمود بالهمزة والنون من قبلها ، بل ما قبلها هو الاسم وهي حرف خطاب ، فكذلك ما قبل [ ص: 209 ] الكاف في إياك اسم والكاف حرف خطاب ، فهذا هو محض القياس . وأما قول أبي إسحاق : إن إيا اسم مظهر خص بالإضافة إلى المضمر ، ففاسد أيضا ، وليس إيا بمظهر ، كما زعم والدليل على أن إيا ليس باسم مظهر اقتصارهم به على ضرب واحد من الإعراب وهو النصب . قال ابن سيده : ولم نعلم اسما مظهرا اقتصر به على النصب البتة إلا ما اقتصر به من الأسماء على الظرفية ، وذلك نحو ذات مرة وبعيدات بين وذا صباح وما جرى مجراهن ، وشيئا من المصادر نحو سبحان الله ومعاذ الله ولبيك ، وليس إيا ظرفا ولا مصدرا فيلحق بهذه الأسماء . فقد صح إذا بهذا الإيراد سقوط هذه الأقوال ، ولم يبق هنا قول يجب اعتقاده ويلزم الدخول تحته إلا قول أبي الحسن من أن إيا اسم مضمر ، وأن الكاف بعده ليست باسم ، وإنما هي للخطاب بمنزلة كاف ذلك وأرأيتك وأبصرك زيدا وليسك عمرا والنجاك . قال ابن جني : وسئل أبو إسحاق عن معنى قوله عز وجل : إياك نعبد ما تأويله ؟ فقال : تأويله حقيقتك نعبد ، قال : واشتقاقه من الآية التي هي العلامة . قال ابن جني : وهذا القول من أبي إسحاق غير مرضي ، وذلك أن جميع الأسماء المضمرة مبني غير مشتق نحو أنا وهي وهو ، وقد قامت الدلالة على كونه اسما مضمرا فيجب أن لا يكون مشتقا . وقال الليث : إيا تجعل مكان اسم منصوب كقولك : ضربتك ، فالكاف اسم المضروب ، فإذا أردت تقديم اسمه فقلت إياك ضربت ، فتكون إيا عمادا للكاف لأنها لا تفرد من الفعل ، ولا تكون إيا في موضع الرفع ولا الجر مع كاف ولا ياء ولا هاء ، ولكن يقول المحذر : إياك وزيدا . ومنهم من يجعل التحذير وغير التحذير مكسورا ، ومنهم من ينصب في التحذير ويكسر ما سوى ذلك للتفرقة . قال أبو إسحاق : موضع إياك في قوله : إياك نعبد نصب بوقوع الفعل عليه ، وموضع الكاف في إياك خفض بإضافة إيا إليها . قال : وإيا اسم للمضمر المنصوب ، إلا أنه ظاهر يضاف إلى سائر المضمرات نحو قولك : إياك ضربت وإياه ضربت وإياي حدثت ، والذي رواه الخليل عن العرب إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب . قال : ومن قال : إن إياك بكماله الاسم ، قيل له : لم نر اسما للمضمر ولا للمظهر ، إنما يتغير آخره ويبقى ما قبل آخره على لفظ واحد ، قال : والدليل على إضافته قول العرب فإياه وإيا الشواب يا هذا ، وإجراؤهم الهاء في إياه مجراها في عصاه . قال الفراء : والعرب تقول : هياك وزيدا إذا نهوك ، قال : ولا يقولون : هياك ضربت . وقال المبرد : إياه لا تستعمل في المضمر المتصل إنما تستعمل في المنفصل ، كقولك : ضربتك لا يجوز أن يقال : ضربت إياك ، وكذلك ضربتهم لا يجوز أن تقول : ضربت إياك وزيدا أي : وضربتك . قال : وأما التحذير إذا قال الرجل للرجل : إياك وركوب الفاحشة ففيه إضمار الفعل كأنه يقول : إياك أحذر ركوب الفاحشة . وقال ابن كيسان : إذا قلت : إياك وزيدا فأنت محذر من تخاطبه من زيد ، والفعل الناصب لهما لا يظهر ، والمعنى أحذرك زيدا كأنه قال : أحذر إياك وزيدا ، فإياك محذر كأنه قال : باعد نفسك عن زيد وباعد زيدا عنك ، فقد صار الفعل عاملا في المحذر والمحذر منه . قال : وهذه المسألة تبين لك هذا المعنى ، تقول : نفسك وزيدا ، ورأسك والسيف أي : اتق رأسك أن يصيبه السيف واتق السيف أن يصيب رأسك ، فرأسه متق لئلا يصيبه السيف ، والسيف متقى ، ولذلك جمعهما الفعل ؛ وقال :


                                                          فإياك إياك المراء ، فإنه     إلى الشر دعاء ، وللشر جالب



                                                          يريد : إياك والمراء ، فحذف الواو لأنه بتأويل إياك وأن تماري ، فاستحسن حذفها مع المراء . وفي حديث عطاء : كان معاوية - رضي الله عنه - إذا رفع رأسه من السجدة الأخيرة كانت إياها ، اسم كان ضمير السجدة ، وإياها الخبر أي كانت هي هي أي : كان يرفع منها وينهض قائما إلى الركعة الأخرى من غير أن يقعد قعدة الاستراحة . وفي حديث عمر بن عبد العزيز : إياي وكذا ، أي : نح عني كذا ونحني عنه . قال : إيا اسم مبني ، وهو ضمير المنصوب ، والضمائر التي تضاف إليها من الهاء والكاف والياء لا مواضع لها من الإعراب في القول القوي . قال : وقد تكون إيا بمعنى التحذير . وأيايا : زجر ؛ وقال ذو الرمة :


                                                          إذا قال حاديهم : أيايا ، اتقيته     بمثل الذرا مطلنفئات العرائك



                                                          قال ابن بري : والمشهور في البيت :


                                                          إذا قال حادينا : أيا ، عجست بنا     خفاف الخطى مطلنفئات العرائك



                                                          وإياة الشمس ، بكسر الهمزة : ضوءها ، وقد تفتح ؛ وقال طرفة :


                                                          سقته إياة الشمس إلا لثاته     أسف ، ولم تكدم عليه بإثمد



                                                          فإن أسقطت الهاء مددت وفتحت ؛ وأنشد ابن بري لمعن بن أوس :


                                                          رفعن رقما على أيلية جدد     لاقى أياها أياء الشمس فأتلقا



                                                          ويقال : الأياة للشمس كالهالة للقمر ، وهي الدارة حولها . ‏

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية