الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
المثال الثاني والعشرون : رد حديث القسامة الصحيح الصريح المحكم بالمتشابه من قوله { لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء رجال وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه } والذي شرع الحكم بالقسامة هو الذي شرع أن لا يعطى أحد بدعواه المجردة ، وكلا الأمرين حق من عند الله ، لا اختلاف فيه ، ولم يعط في القسامة بمجرد الدعوى ، وكيف يليق بمن بهرت حكمة شرعه العقول أن لا يعطي المدعي بمجرد دعواه عودا من أراك ثم يعطيه بدعوى مجردة دم أخيه المسلم ؟ وإنما أعطاه ذلك بالدليل الظاهر الذي يغلب على الظن صدقه فوق تغليب الشاهدين ، وهو اللوث والعداوة والقرينة الظاهرة من وجود العدو مقتولا في بيت عدوه ، فقوى الشارع الحكيم هذا السبب باستحلاف خمسين من أولياء القتيل الذين يبعد أو يستحيل اتفاقهم كلهم على رمي البريء بذم ليس منه [ ص: 238 ] بسبيل ولا يكون فيهم رجل رشيد يراقب الله ؟ ولو عرض على جميع العقلاء هذا الحكم والحكم بتحليف العدو الذي وجد القتيل في داره بأنه ما قتله لرأوا أن ما بينهما من العدل كما بين السماء والأرض ، ولو سئل كل سليم الحاسة عن قاتل هذا لقال من وجد في داره ، والذي يقضي منه العجب أن يرى قتيل يتشحط في دمه وعدوه هارب بسكين ملطخة بالدم ويقال : القول قوله ، فيستحلفه بالله ما قتله ويخلي سبيله ، ويقدم ذلك على أحسن الأحكام وأعدلها وألصقها بالعقول والفطر ، الذي لو اتفقت العقلاء لم يهتدوا لأحسن منه ، بل ولا لمثله . وأين ما تضمنه الحكم بالقسامة من حفظ الدماء إلى ما تضمنه تحليف من لا يشك مع القرائن التي تفيد القطع أنه الجاني ؟ .

ونظير هذا إذا رأينا رجلا من أشراف الناس حاسر الرأس بغير عمامة وآخر أمامه يشتد عدوا وفي يده عمامة وعلى رأسه أخرى ; فإنا ندفع العمامة التي بيده إلى حاسر الرأس ونقبل قوله ، ولا نقول لصاحب اليد : القول قولك مع يمينك .

وقوله صلى الله عليه وسلم : { لو يعطى الناس بدعواهم } لا يعارض القسامة بوجه ; فإنه إنما نفى الإعطاء بدعوى مجردة . وقوله : { ولكن اليمين على المدعى عليه } هو في مثل هذه الصورة حيث لا تكون مع المدعي إلا مجرد الدعوى ، وقد دل القرآن على رجم المرأة بلعان الزوج إذا نكلت ، وليس ذلك إقامة للحد بمجرد أيمان الزوج ، بل بها وبنكولها ، وهكذا في القسامة إنما يقبل فيها باللوث الظاهر والأيمان المتعددة المغلظة ، وهاتان بينتا هذين الموضعين ، والبينات تختلف بحسب حال المشهود به كما تقدم بأربعة شهود ، وثلاثة ، بالنص وإن خالفه من خالفه في بينة الإعسار ، واثنان ، وواحد ويمين ، ورجل وامرأتان ، ورجل واحد ، وامرأة واحدة ، وأربعة أيمان ، وخمسون يمينا ، ونكول وشهادة الحال ، ووصف المالك اللقطة ، وقيام القرائن ، والشبه الذي يخبر به القائف ، ومعاقد القمط ، ووجوه الآجر في الحائط ، وكونه معقودا ببناء أحدهما عند من يقول بذلك ; فالقسامة مع اللوث أقوى البينات .

التالي السابق


الخدمات العلمية