الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                [ ص: 122 ] سورة المنافقون

                                                                                                                                                                                                مدنية، وهي إحدى عشرة آية نزلت بعد [الحج]

                                                                                                                                                                                                بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون

                                                                                                                                                                                                أرادوا بقولهم: نشهد إنك لرسول الله شهادة واطأت فيها قلوبهم ألسنتهم. فقال الله عز وجل -: قالوا ذلك والله يعلم أن الأمر كما يدل عليه قولهم: إنك لرسول الله، والله يشهد إنهم لكاذبون في قولهم: نشهد; وادعائهم فيه المواطأة. أو إنهم لكاذبون فيه، لأنه إذا خلا عن المواطأة لم يكن شهادة في الحقيقة; فهم كاذبون في تسميته شهادة. أو أراد: والله يشهد إنهم لكاذبون عند أنفسهم: لأنهم كانوا يعتقدون أن قولهم: إنك لرسول الله كذب وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه. فإن قلت: أي فائدة في قوله تعالى: والله يعلم إنك لرسوله ؟ قلت: لو قال: قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يشهد إنهم الكاذبون، لكان يوهم أن قولهم هذا كذب; فوسط بينهما قوله: والله يعلم إنك لرسوله ؟ ليميط هذا الإيهام اتخذوا أيمانهم جنة يجوز أن يراد أن قولهم نشهد إنك لرسول الله يمين من أيمانهم الكاذبة، لأن الشهادة تجري مجرى الحلف فيما يراد به من التوكيد، يقول الرجل: أشهد وأشهد بالله، وأعزم وأعزم بالله في موضع أقسم وأولي.

                                                                                                                                                                                                وبه استشهد [ ص: 123 ] أبو حنيفة رحمه الله على أن "أشهد" يمين. ويجوز أن يكون وصفا للمنافقين في استجنانهم بالأيمان. وقرأ الحسن البصري : إيمانهم، أي: ما أظهروه من الإيمان بألسنتهم. ويعضده قوله تعالى: ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا .

                                                                                                                                                                                                ساء ما كانوا يعملون من نفاقهم وصدهم الناس عن سبيل الله. وفي "ساء" معنى التعجب الذي هو تعظيم أمرهم عند السامعين "ذلك" إشارة إلى قوله: ساء ما كانوا يعملون أي: ذلك القول الشاهد عليهم بأنهم أسوأ الناس أعمالا بسبب بأنهم آمنوا ثم كفروا أو إلى ما وصف من حالهم في النفاق والكذب والاستجنان بالأيمان، أي: ذلك كله بسبب أنهم آمنوا ثم كفروافطبع على قلوبهم فجسروا على كل عظيمة. فإن قلت: المنافقون لم يكونوا إلا على الكفر الثابت الدائم، فما معنى قوله: ثم كفروا ثم ؟ قلت: فيه ثلاثة أوجه، أحدها: آمنوا، أي: نطقوا بكلمة الشهادة وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام، ثم كفروا: ثم ظهر كفرهم بعد ذلك وتبين بما أطلع عليه من قولهم: إن كان ما يقوله محمد حقا فنحن حمير، وقولهم في غزوة تبوك : أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر هيهات. ونحوه قوله تعالى: يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم [التوبة: 74]. أي: وظهر كفرهم بعد أن أسلموا. ونحوه قوله تعالى: لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم [التوبة: 66]. والثاني آمنوا: أي نطقوا بالإيمان عند المؤمنين، ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالإسلام، كقوله تعالى: وإذا لقوا الذين آمنوا إلى قوله تعالى: إنما نحن مستهزئون [البقرة: 14]. أن يراد أهل الردة منهم. وقرئ: "فطبع [ ص: 124 ] قلوبهم"، وقرأ زيد بن علي : "فطبع الله".

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية