الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقوله : ( والجنة والنار مخلوقتان ، لا تفنيان أبدا ولا تبيدان ، فإن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق ، وخلق لهما أهلا ، فمن شاء منهم إلى الجنة فضلا منه ، ومن شاء منهم إلى النار عدلا منه ، وكل يعمل لما [ قد ] فرغ له ، وصائر إلى ما خلق له ، والخير والشر مقدران على العباد ) .

ش : أما قوله : إن الجنة والنار مخلوقتان ، فاتفق أهل السنة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن ، ولم يزل على ذلك أهل السنة ، [ ص: 615 ] حتى نبغت نابغة من المعتزلة والقدرية ، فأنكرت ذلك ، وقالت : بل ينشئهما الله يوم القيامة ! ! وحملهم على ذلك أصلهم الفاسد الذي وضعوا به شريعة لما يفعله الله ، وأنه ينبغي أن يفعل كذا ، ولا ينبغي له أن يفعل كذا ! ! وقاسوه على خلقه في أفعالهم ، فهم مشبهة في الأفعال ، ودخل التجهم فيهم ، فصاروا مع ذلك معطلة ! وقالوا : خلق الجنة قبل الجزاء عبث ؛ لأنها تصير معطلة مددا متطاولة ! ! فردوا من النصوص ما خالف هذه الشريعة الباطلة التي وضعوها للرب تعالى ، وحرفوا النصوص عن مواضعها ، وضللوا وبدعوا من خالف شريعتهم .

فمن نصوص الكتاب : قوله تعالى عن الجنة : أعدت للمتقين [ آل عمران : 133 ] . أعدت للذين آمنوا بالله ورسله [ الحديد : 21 ] . وعن النار : أعدت للكافرين [ آل عمران : 131 ] . إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا [ النبأ : 21 - 22 ] . وقال تعالى : ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى [ النجم : 13 - 15 ] . وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى ، ورأى عندها جنة المأوى . كما في الصحيحين ، من حديث أنس رضي الله عنه ، في قصة الإسراء ، وفي آخره : ثم انطلق بي جبرائيل ، حتى أتى سدرة المنتهى ، فغشيها ألوان لا أدري ما هي ، قال : ثم دخلت الجنة ، فإذا هي جنابذ اللؤلؤ ، وإذا ترابها المسك

وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة [ ص: 616 ] والعشي ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، يقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة .

وتقدم حديث البراء بن عازب ، وفيه : ينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي ، فافرشوه من الجنة ، وافتحوا له بابا إلى الجنة ، قال : فيأتيه من روحها وطيبها . . . .

وتقدم حديث أنس بمعنى حديث البراء .

وفي صحيح مسلم ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكرت الحديث ، وفيه : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتم به ، حتى لقد رأيتني آخذ قطفا من الجنة حين رأيتموني أقدم ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا حين رأيتموني تأخرت .

وفي الصحيحين ، واللفظ للبخاري ، عن عبد الله ابن عباس ، قال : انخسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر الحديث ، وفيه : [ ص: 617 ] فقالوا : يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا في مقامك ، ثم رأيناك تكعكعت ؟ فقال : إني رأيت الجنة ، وتناولت عنقودا ، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا ، ورأيت النار ، فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع ، ورأيت أكثر أهلها النساء ، قالوا : بم يا رسول الله ؟ قال : بكفرهن ، قيل : أيكفرن بالله ؟ قال : يكفرن العشير ، ويكفرن الإحسان ، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ، ثم رأت منك شيئا ، قالت : ما رأيت خيرا قط ! !

وفي صحيح مسلم من حديث أنس : وايم الذي نفسي بيده ، لو رأيتم ما رأيت ، لضحكتم قليلا وبكيتم كثيرا . قالوا : وما رأيت يا رسول الله ؟ قال : رأيت الجنة والنار .

وفي الموطأ والسنن ، من حديث كعب ابن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر الجنة ، حتى يرجعها الله إلى جسده يوم القيامة .

[ ص: 618 ] وهذا صريح في دخول الروح الجنة قبل يوم القيامة .

وفي صحيح مسلم والسنن والمسند . من حديث أبي هريرة رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لما خلق الله الجنة والنار ، أرسل جبريل إلى الجنة ، فقال : اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها ، فذهب فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها ، فرجع فقال : وعزتك ، لا يسمع بها أحد إلا دخلها ، فأمر بالجنة ، فحفت بالمكاره ، فقال : ارجع فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها ، قال : فنظر إليها ، ثم رجع فقال : وعزتك ، لقد خشيت أن لا يدخلها أحد ، قال : ثم أرسله إلى النار ، قال : اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها ، قال : فنظر إليها ، فإذا هي يركب بعضها بعضا ، ثم رجع فقال : وعزتك ، لا يدخلها أحد سمع بها ، فأمر بها فحفت بالشهوات ، ثم قال : اذهب فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها ، فذهب فنظر إليها ، فرجع فقال : وعزتك ، لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها . ونظائر ذلك في السنة كثيرة .

وأما على قول من قال : إن الجنة الموعود بها هي الجنة التي كان فيها آدم ثم أخرج منها ، فالقول بوجودها الآن ظاهر ، والخلاف في ذلك معروف .

وأما شبهة من قال : إنها لم تخلق بعد ، وهي : أنها لو كانت [ ص: 619 ] مخلوقة الآن لوجب اضطرارا أن تفنى يوم القيامة وأن يهلك كل من فيها ويموت ، لقوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه [ القصص : 88 ] . و كل نفس ذائقة الموت [ آل عمران : 185 ] .

وقد روى الترمذي في جامعه ، من حديث ابن مسعود رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقيت إبراهيم ليلة أسري بي ، فقال : يا محمد ، أقرئ أمتك مني السلام ، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة ، عذبة الماء ، وأنها قيعان ، وأن غراسها سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، قال : هذا حديث حسن غريب .

وفيه أيضا من حديث أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : من قال سبحان الله وبحمده ، غرست له نخلة في الجنة ، قال : هذا حديث حسن صحيح ، قالوا : فلو كانت مخلوقة مفروغا منها لم تكن قيعانا ، ولم يكن لهذا الغراس معنى .

قالوا : وكذا قوله تعالى عن امرأة فرعون أنها قالت : رب ابن لي عندك بيتا في الجنة [ التحريم : 11 ] .

[ ص: 620 ] فالجواب : إنكم إن أردتم بقولكم إنها الآن معدومة بمنزلة النفخ في الصور وقيام الناس من القبور ، فهذا باطل ، يرده ما تقدم من الأدلة وأمثالها مما لم يذكر ، وإن أردتم أنها لم يكمل خلق جميع ما أعد الله فيها لأهلها ، وأنها لا يزال الله يحدث فيها شيئا بعد شيء ، وإذا دخلها المؤمنون أحدث الله فيها عند دخولهم أمورا أخر - فهذا حق لا يمكن رده ، وأدلتكم هذه إنما تدل على هذا القدر .

وأما احتجاجكم بقوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه [ القصص : 88 ] فأتيتم من سوء فهمكم معنى الآية ، واحتجاجكم بها على عدم وجود الجنة والنار الآن - نظير احتجاج إخوانكم على فنائهما وخرابهما وموت أهلهما ! ! فلم توفقوا أنتم ولا إخوانكم لفهم معنى الآية ، وإنما وفق لذلك أئمة الإسلام . فمن كلامهم : أن المراد كل شيء مما كتب الله عليه الفناء والهلاك هالك ، والجنة والنار خلقتا للبقاء لا للفناء ، وكذلك العرش ، فإنه سقف الجنة . وقيل : المراد إلا ملكه . وقيل : إلا ما أريد به وجهه . وقيل : إن الله تعالى أنزل : " كل من عليها فان [ الرحمن : 26 ] ، فقالت الملائكة : هلك أهل الأرض ، وطمعوا في البقاء ، فأخبر تعالى عن أهل السماء والأرض أنهم يموتون ، فقال : كل شيء هالك إلا وجهه [ القصص : 88 ] ، لأنه حي لا يموت ، فأيقنت الملائكة عند ذلك بالموت . وإنما قالوا ذلك توفيقا بينها وبين النصوص المحكمة ، الدالة على بقاء الجنة ، وعلى بقاء النار أيضا ، على ما يذكر عن قريب ، إن شاء الله تعالى .

وقوله : " لا تفنيان أبدا ولا تبيدان " - هذا قول جمهور الأئمة من السلف والخلف .

[ ص: 621 ] وقال ببقاء الجنة وبفناء النار جماعة من السلف والخلف ، والقولان مذكوران في كثير من كتب التفسير وغيرها .

وقال بفناء الجنة والنار الجهم بن صفوان إمام المعطلة ، وليس له سلف قط ، لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان ، ولا من أئمة المسلمين ، ولا من أهل السنة . وأنكره عليه عامة أهل السنة ، وكفروه به ، وصاحوا به وبأتباعه من أقطار الأرض . وهذا قاله لأصله الفاسد الذي اعتقده ، وهو امتناع وجود ما لا يتناهى من الحوادث ! وهو عمدة أهل الكلام المذموم ، التي استدلوا بها على حدوث الأجسام ، وحدوث ما لم يخل من الحوادث ، وجعلوا ذلك عمدتهم في حدوث العالم . فرأى الجهم أن ما يمنع من حوادث لا أول لها في الماضي ، يمنعه في المستقبل ! ! فدوام الفعل عنده على الرب في المستقبل ممتنع ، كما هو ممتنع عنده عليه في الماضي ! ! وأبو الهذيل العلاف شيخ المعتزلة ، وافقه على هذا الأصل ، لكن قال : إن هذا يقتضي فناء الحركات ، فقال بفناء حركات أهل الجنة والنار ، حتى يصيروا في سكون دائم ، لا يقدر أحد منهم على حركة ! ! وقد تقدم الإشارة إلى اختلاف الناس في [ ص: 622 ] تسلسل الحوادث في الماضي والمستقبل ، وهي مسألة دوام فاعلية الرب تعالى ، وهو لم يزل ربا قادرا فعالا لما يريد ، فإنه لم يزل حيا عليما قديرا . ومن المحال أن يكون الفعل ممتنعا عليه لذاته ، ثم ينقلب فيصير ممكنا لذاته ، من غير تجدد شيء ، وليس للأول حد محدود حتى يصير الفعل ممكنا له عند ذلك الحد ، ويكون قبله ممتنعا عليه . فهذا القول تصوره كاف في الجزم بفساده . فأما أبدية الجنة ، وأنها لا تفنى ولا تبيد ، فهذا مما يعلم بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر به ، قال تعالى : وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ [ هود : 108 ] أي غير مقطوع ، ولا ينافي ذلك قوله : إلا ما شاء ربك .

واختلف السلف في هذا الاستثناء : فقيل : معناه إلا مدة مكثهم في النار ، وهذا يكون لمن دخل منهم إلى النار ثم أخرج منها ، لا لكلهم . وقيل : إلا مدة مقامهم في الموقف . وقيل : إلا مدة مقامهم في القبور والموقف .

وقيل : هو استثناء استثناه الرب ولا يفعله ، كما تقول : والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك ، وأنت لا تراه ، بل تجزم بضربه .

وقيل : " إلا " بمعنى الواو ، وهذا على قول بعض النحاة ، وهو ضعيف . وسيبويه يجعل " إلا " بمعنى لكن ، فيكون الاستثناء منقطعا ، ورجحه ابن جرير وقال : إن الله تعالى لا خلف لوعده ، وقد وصل الاستثناء بقوله : [ ص: 623 ] " عطاء غير مجذوذ " . قالوا : ونظيره أن تقول : أسكنتك داري حولا إلا ما شئت ، أي سوى ما شئت ، أو لكن ما شئت من الزيادة عليه .

وقيل : الاستثناء لإعلامهم ، بأنهم مع خلودهم في مشيئة الله ، لا أنهم يخرجون عن مشيئته ، ولا ينافي ذلك عزيمته وجزمه لهم بالخلود ، كما في قوله تعالى : " ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا " [ الإسراء : 86 ] وقوله تعالى : " فإن يشأ الله يختم على قلبك " [ الشورى : 24 ] وقوله : " قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به " [ يونس : 16 ] . ونظائره كثيرة ، يخبر عباده سبحانه أن الأمور كلها بمشيئته ، ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن .

وقيل : إن ( ما ) بمعنى ( من ) أي : إلا من شاء الله دخوله النار بذنوبه من السعداء . وقيل : غير ذلك . وعلى كل تقدير ، فهذا الاستثناء من المتشابه ، وقوله : " عطاء غير مجذوذ " محكم . وكذلك قوله تعالى : " إن هذا لرزقنا ما له من نفاد " [ ص : 54 ] . وقوله : " أكلها دائم وظلها " [ الرعد : 35 ] . وقوله : وما هم منها بمخرجين [ الحجر : 48 ] .

وقد أكد الله خلود أهل الجنة بالتأبيد في عدة مواضع من القرآن ، وأخبر أنهم : " لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى " [ الدخان : 56 ] وهذا الاستثناء منقطع ، وإذا ضممته إلى الاستثناء في قوله تعالى : [ ص: 624 ] " إلا ما شاء ربك " تبين أن المراد من الآيتين استثناء الوقت الذي لم يكونوا فيه في الجنة من مدة الخلود ، كاستثناء الموتة الأولى من جملة الموت ، فهذه موتة تقدمت على حياتهم الأبدية ، وذاك مفارقة للجنة تقدمت على خلودهم فيها .

والأدلة من السنة على أبدية الجنة ودوامها كثيرة : كقوله صلى الله عليه وسلم : " من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس ، ويخلد ولا يموت . وقوله : " ينادي مناد : يا أهل الجنة ، إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا ، وأن تشبوا فلا تهرموا أبدا ، وأن تحيوا فلا تموتوا أبدا " .

وتقدم ذكر ذبح الموت بين الجنة والنار ، ويقال : يا أهل الجنة ، خلود فلا موت ، ويا أهل النار ، خلود فلا موت .

التالي السابق


الخدمات العلمية