الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
فصل

قال «أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري» في كتابه المشهور «الإبانة» بعد الخطبة: «فصل في إبانة قول أهل الزيغ والبدعة، أما بعد: فإن كثيرا من الزائغين عن الحق، من المعتزلة وأهل القدر، مالت بهم أهواؤهم إلى تقليد رؤسائهم، ومن مضى من أسلافهم، فتأولوا القرآن على آرائهم، تأويلا لم ينزل الله به سلطانا، ولا أقام به برهانا، ولا نقلوه عن رسول رب العالمين، ولا عن السلف المتقدمين، وخالفوا روايات الصحابة رضي الله عنهم، عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، في رؤية الله بالأبصار، وقد جاءت في ذلك الروايات من الجهات المختلفات، تواترت بها الآثار، [ ص: 104 ] وتتابعت بها الأخبار، وأنكروا شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمذنبين، ودفعوا الروايات في ذلك عن السلف المتقدمين، وجحدوا عذاب القبر، وأن الكفار في قبورهم يعذبون، وقد أجمع على ذلك الصحابة والتابعون، ودانوا بخلق القرآن، نظيرا لقول إخوانهم من المشركين الذين قالوا: إن هذا إلا قول البشر [المدثر: 25] فزعموا أن القرآن كقول البشر، وأثبتوا أن العباد يخلقون الشر، نظيرا لقول المجوس الذين أثبتوا خالقين: أحدهما يخلق الخير والآخر يخلق الشر، وزعمت القدرية أن الله عز وجل يخلق الخير، والشيطان يخلق الشر، وزعموا أن الله يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، خلافا لما أجمع عليه المسلمون، من أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وردا لقوله عز وجل وما تشاءون إلا أن يشاء الله [التكوير: 29] فأخبر أنا لا نشاء شيئا إلا وقد شاء الله أن نشاءه، ولقوله ولو شاء الله ما اقتتلوا [البقرة: 253] ولقوله: ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها [السجدة: 13] ولقوله تعالى: فعال لما يريد [البروج: 16] ولقوله تعالى مخبرا عن نبيه «شعيب» أنه قال: [ ص: 105 ] وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما [الأعراف: 89] ولهذا سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة، لأنهم دانوا بديانة المجوس، وضاهوا أقاويلهم، وزعموا أن للخير والشر خالقين، كما زعمت المجوس ذلك، وأنه يكون من الشرور ما لا يشاء الله، كما قالت المجوس، وزعموا أنهم يملكون الضر والنفع لأنفسهم دون الله، ردا لقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله [الأعراف: 188] وإعراضا عن القرآن، وعما أجمع عليه أهل الإسلام، وزعموا أنهم ينفردون بالقدرة على أعمالهم دون ربهم، فأثبتوا لأنفسهم الغنى عن الله، ووصفوا أنفسهم بالقدرة على ما لم يصفوا الله بالقدرة عليه، كما أثبت المجوس للشيطان من القدرة على الشر ما لم يثبتوه لله تعالى. فكانوا مجوس هذه الأمة، إذ دانوا بديانة المجوس، وتمسكوا بأقاويلهم، ومالوا إلى أضاليلهم، وقنطوا الناس من رحمة الله تعالى، وأيسوهم من روحه، وحكموا على العصاة بالنار والخلود فيها، خلافا لقوله تعالى: ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء: 116] .

وزعموا أن من دخل النار [ ص: 106 ] لا يخرج منها، خلافا لما جاءت به الرواية، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليخرج قوما بعد أن امتحشوا فيها وصاروا حمما». ودفعوا أن يكون لله وجه، مع قوله عز وجل: ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [الرحمن: 27] وأنكروا أن يكون لله يدان، مع قوله: لما خلقت بيدي [ص: 75] وأنكروا أن يكون له عينان، مع قوله تجري بأعيننا [القمر: 14] ولقوله: ولتصنع على عيني ] [طه: 39] وأنكروا أن يكون لله علم، مع قوله: أنزله بعلمه [النساء: 166] وأنكروا أن يكون لله قوة، مع قوله: ذو القوة المتين [الذاريات: 58]، [ ص: 107 ] ونفوا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الله عز وجل ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا» ، وغير ذلك مما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك جميع أهل البدع; من الجهمية والمرجئة والحرورية، وأهل الزيغ فيما ابتدعوا خالفوا الكتاب والسنة، وما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأجمعت عليه الأمة، كفعل المعتزلة والقدرية، وأنا أذكر ذلك بابا بابا وشيئا شيئا إن شاء الله وبه المعونة» ثم قال «الأشعري»: «فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة.

فإن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة، والقدرية والجهمية، والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي [به] تقولون، وديانتكم التي بها تدينون، قيل له: [ ص: 108 ] قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها، التمسك بكتاب ربنا عز وجل، وبسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل -نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته- قائلون، ولما خالف قوله مخالفون; لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وجليل معظم، وكبير مفهم، وعلى جميع أئمة المسلمين، وجملة قولنا: إنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاؤوا به من عند الله، وبما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نرد من ذلك شيئا، وأن الله عز وجل إله واحد لا إله إلا هو، فرد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، وأن الجنة حق، والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، [ ص: 109 ] وأن الله مستو على عرشه، كما قال عز وجل: الرحمن على العرش استوى [طه: 5] وأن له وجها، كما قال ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [الرحمن: 27] وأن له يدين، بلا كيف، كما قال: خلقت بيدي [ص: 75] وكما قال: بل يداه مبسوطتان [المائدة: 64] وأن له عينين بلا كيف، كما قال: تجري بأعيننا [القمر: 14] وأن من زعم أن أسماء الله غيره كان ضالا، وأن لله علما، كما قال: أنزله بعلمه [النساء: 166] وكما قال: وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه [فصلت: 47] ونثبت لله السمع والبصر، ولا ننفي ذلك كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج، ونثبت لله قوة، كما قال: أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة [فصلت: 15] ونقول: إن كلام الله غير مخلوق، وأنه لم يخلق شيئا إلا وقد قال له: كن فيكون كما قال: إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون [النحل: 40] وأنه لا يكون في الأرض شيء من خير أو شر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله عز وجل، وأن أحدا لا يستطيع شيئا قبل أن [ ص: 110 ] يفعله ولا يستغني عن الله، ولا يقدر على الخروج من علم الله، وأنه لا خالق إلا الله، وأن أعمال العباد مخلوقة لله، ومقدرة، كما قال: خلقكم وما تعملون [الصافات: 96] وأن العباد لا يقدرون يخلقون شيئا، وهم يخلقون، كما قال: هل من خالق غير الله [فاطر: 3] وكما قال: لا يخلقون شيئا وهم يخلقون [النحل: 20] وكما قال: أفمن يخلق كمن لا يخلق [النحل: 17] وكما قال: أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون [الطور: 35] وهذا في كتاب الله كثير، وأن الله وفق المؤمنين لطاعته، ولطف بهم، ونظر لهم، وأصلحهم وهداهم، وأضل الكافرين ولم يهدهم، ولم يلطف بهم بالإيمان، كما زعم أهل الزيغ والطغيان، ولو لطف بهم وأصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين، كما قال تبارك وتعالى: من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون [ ص: 111 ] [الأعراف: 178] وأن الله يقدر أن يصلح الكافرين، ويلطف بهم، حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وخذلهم وطبع على قلوبهم، وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره، وأن نؤمن بقضاء الله وقدره خيره وشره، وحلوه ومره، ونعلم أن ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وأن العباد لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا إلا بالله كما قال عز وجل، ونلجئ أمورنا إلى الله، ونثبت الحاجة والفقر في كل وقت إليه.

ونقول: إن كلام الله غير مخلوق، وأن من قال بخلق القرآن فهو كافر، وندين بأن الله يرى في الآخرة بالأبصار، كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون، كما جاءت الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونقول: إن الكافرين محجوبون عنه، إذا رآه المؤمنون في الجنة، كما قال عز وجل: كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون [ ص: 112 ] [المطففين: 15] وأن موسى عليه السلام سأل الله عز وجل الرؤية في الدنيا، وأن الله سبحانه وتعالى تجلى للجبل فجعله دكا، فأعلم بذلك موسى أنه لا يراه في الدنيا، وندين بأن لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه، كالزنا والسرقة وشرب الخمور، كما دانت بذلك الخوارج، وزعمت أنهم كافرون، ونقول: إن من عمل كبيرة من هذه الكبائر، مثل الزنا والسرقة، وما أشبههما، مستحلا لها غير معتقد لتحريمها، كان كافرا، ونقول: إن الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كل إسلام إيمان، وندين الله عز وجل بأنه يقلب القلوب، وأن القلوب بين أصبعين من أصابع الله عز وجل، وأنه عز وجل يضع السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وندين بأن لا ننزل أحدا من أهل التوحيد، والمتمسكين بالإيمان، جنة ولا نارا، إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، ونرجو الجنة للمذنبين، ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين، ونقول: إن الله عز وجل يخرج قوما من النار بعد أن امتحشوا، بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تصديقا لما [ ص: 113 ] جاءت به الروايات، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونؤمن بعذاب القبر وبالحوض، وبأن الميزان حق والصراط حق، والبعث بعد الموت حق، وأن الله عز وجل يوقف العباد، في الموقف، ويحاسب المؤمنين، وأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ونسلم للروايات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي رواها الثقات، عدلا عن عدل، حتى تنتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وندين بحب السلف، الذين اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونثني عليهم، بما أثنى الله به عليهم، ونتولاهم أجمعين، ونقول إن الإمام الفاضل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضوان الله عليه، وأن الله أعز به الدين، وأظهره على المرتدين، وقدمه المسلمون بالإمامة، كما قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة، وسموه بأجمعهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأن الذين قاتلوه، قاتلوه ظلما وعدوانا، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلافتهم خلافة النبوة، ونشهد بالجنة للعشرة، الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، [ ص: 114 ] ونتولى سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ونكف عما شجر بينهم، وندين الله بأن الأئمة الأربعة خلفاء راشدون مهديون، فضلاء لا يوازيهم في الفضل غيرهم، ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل، من النزول إلى السماء الدنيا، وأن الرب عز وجل يقول: هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ وسائر ما نقلوه وأثبتوه، خلافا لما قال أهل الزيغ والتضليل. ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب ربنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين، وما كان في معناه، ولا نبتدع في دين الله ما لم يأذن لنا، ولا نقول على الله ما لا نعلم، ونقول: إن الله عز وجل يجيء يوم القيامة، كما قال: وجاء ربك والملك صفا صفا [الفجر: 22] وأن الله عز وجل يقرب من عباده كيف شاء، كما قال: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد [ق: 16] وكما قال: ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى [النجم: 8-9] ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد وسائر الصلوات، خلف كل بر وغيره، وكما روي أن «عبد الله بن عمر» كان يصلي [ ص: 115 ] خلف الحجاج» وأن المسح على الخفين سنة، في الحضر والسفر، خلافا لقول من أنكر ذلك.

ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم، وتضليل من رأى الخروج عليهم، إذا ظهر منهم ترك الاستقامة، وندين بإنكار الخروج بالسيف، وترك القتال في الفتنة، ونقر بخروج الدجال، كما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونؤمن بعذاب القبر، ومنكر ونكير، ومساءلتهما المدفونين في قبورهم، ونصدق بحديث المعراج، ونصحح كثيرا من الرؤيا في المنام، ونقر أن لذلك تفسيرا، ونرى الصدقة عن موتى المسلمين، والدعاء لهم، ونؤمن بأن الله ينفعهم بذلك، ونصدق بأن في الدنيا سحرة وسحرا، وأن السحر كائن موجود في الدنيا، وندين بالصلاة على من مات من أهل القبلة، برهم وفاجرهم، وموارثتهم، ونقر أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن من مات [ ص: 116 ] وقتل فبأجله مات وقتل; وأن الأرزاق من قبل الله عز وجل، يرزقها عباده حلالا وحراما، وأن الشيطان يوسوس للإنسان، ويشككه ويتخبطه، خلافا لقول المعتزلة والجهمية، كما قال الله عز وجل: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس [البقرة: 275] وكما قال: من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس [الناس: 4-6].

ونقول: إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله عز وجل بآيات يظهرها عليهم: وقولنا في أطفال المشركين: «إن الله يؤجج لهم في الآخرة نارا، ثم يقول لهم: اقتحموها» كما جاءت بذلك الرواية، وندين الله بأنه يعلم ما العباد عاملون، وإلى ما هم [ ص: 117 ] صائرون، وما كان وما يكون، وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون، وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين، ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة، ومجانبة أهل الأهواء، وسنحتج لما ذكرنا من قولنا، وما بقي منه، مما لم نذكره بابا بابا، وشيئا شيئا».

التالي السابق


الخدمات العلمية