الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب : في إغلاق الأبواب وطفء الموقد .

( و ) يشرع أيضا ( إيجاف ) أي إغلاق ( أبواب ) جمع باب وهو الفرجة المتوصل منها إلى الدخول والخروج . قال في الإقناع : وإغلاق الباب أي يسن ، وعبارة بعضهم ويرخي الستر . قال شيخ مشايخنا البلباني في آدابه كغيره من علمائنا وغيرهم : يسن لمن أراد أن ينام أن يوكئ سقاه ، ويطفئ سراجه ، ويغلق بابه ، وكذا في الإقناع : يسن تخمير الإناء ولو أن يعرض عليه عودا وإيكاء السقاء إذا أمسى ، وإغلاق الباب ، فقيد بالمساء ، ويأتي الكلام عليه قريبا ( و ) يشرع ( طفء ) أي إطفاء ( الموقد ) بتشديد القاف يعني النار . قال في القاموس : الوقد محركة النار واتقادها كالوقد والوقود والقدة والوقدان والتوقد والاستيقاد والفعل وقد كوعد ، والوقود كصبور الحطب .

وكلامه رحمه الله يشمل المصباح وغيره لما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال { احترق بيت على أهله في المدينة من الليل ، فلما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن هذه النار عدو لكم فإذا نمتم فأطفئوها عنكم } .

وفي سنن أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال { جاءت فأرة فأخذت تجر الفتيلة فجاءت بها فألقتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخمرة التي كان قاعدا عليها فأحرقت منها قدر موضع درهم } الخمرة السجادة التي يسجد عليها المصلي ، سميت بذلك لأنها تخمر الوجه أي تغطيه .

[ ص: 436 ] ورواه الحاكم عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال { جاءت فأرة فأخذت تجر الفتيلة فذهبت الجارية تزجرها فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعيها فجاءت بها فألقتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخمرة التي كان قاعدا عليها فأحرقت منها موضع درهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نمتم فأطفئوا سرجكم فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا فتحرقكم } قال الحاكم صحيح الإسناد .

وفي صحيح مسلم وغيره { أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإطفاء النار عند النوم } ، وعلل ذلك بأن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم .

قال صدر الوزراء عون الدين بن هبيرة طيب الله روحه : النار يستحب إطفاؤها عند النوم ; لأنها عدو ، فأما إن جعل المصباح في شيء معلق أو على مكان عال لا تصل الفويسقة إليه فلا بأس . انتهى . وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل إطفاء المصباح من أجل فعل الفويسقة ، فإذا انتفت العلة التي علل بها صلى الله عليه وسلم زال المنع والله أعلم .

( تنبيهات ) :

( الأول ) : ذكرنا في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أوك سقاك واذكر اسم الله . .. إلخ ، وذكر اسمه جل شأنه تبركا وتيمنا لتكون حركات المكلف مصحوبة بذكره سبحانه وتعالى . وذكر بعض الأشياخ عن ابنة الحجاوي رحمه الله تعالى أن والدها أفادها أنها إذا لم تجد ما تغطي به الإناء تضع يدها عليه فتقول بسم الله هذا غطاؤك يعني أنها غطته بفضل البسملة ، وذلك منه إما لتعتاد التغطية فلا تهملها كما قال ابن مفلح في تعريض العود ، وإما لحصول المقصود ببركة اسم المعبود جل شأنه وتعالى سلطانه .

( الثاني ) : إطلاق نظمه رحمه الله تعالى يتناول فعل ذلك مساء ونهارا ، فلا يتقيد بكونه إنما يندب عند إرادة النوم وقيده في الإقناع وغيره بالمساء وهو صريح الأخبار التي ذكرناها عن حضرة الرسالة . قال الشيخ شمس الدين اليونيني في مختصر الآداب كأصله : وسياق ما سبق من كلام الأصحاب رحمهم الله أن ذلك يخص الليل وهو ظاهر الخبر . قال والمراد إلا في بقاء النار فإنه لا فرق بين الليل والنهار ، والمراد الغفلة عنها بنوم أو غيره والله أعلم .

[ ص: 437 ] الثالث ) : إذا نام ولم يطفئ النار وخالف سنة النبي المختار فهل يضمن ما تلف بها لغيره . قال في الآداب الكبرى : لم أجد تصريحا بها والأجود أن يضمن لتعديه بارتكاب المنهي عنه ، ويتوجه احتمال لا يضمن ; لأنها في ملكه ، وعادة أكثر الناس أو كثير منهم بقاؤها والغالب السلامة . قال ولهذا لا يحرم استعمال الماء الذي في إناء لم يغط مع احتمال الضرر بالوباء الواقع فيه لندرة ذلك وقلته ، كما في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال { كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فاستسقى ، فقال رجل يا رسول الله ألا نسقيك نبيذا ؟ فقال بلى ، فخرج الرجل يسعى فجاء بقدح نبيذ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا خمرته ولو تعرض عليه عودا قال فشرب } وظاهر كلامهم أنه لا يكره .

وذكر ابن عقيل أن المذهب لا يكره الوضوء منه ، ثم ذكر خبر نزول الوباء فيه وهو ما في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال { غطوا الإناء وأوكوا السقاء فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء إلا نزل فيه من ذلك الوباء } زاد مسلم في رواية قال الليث : فالأعاجم عندنا يتقون ذلك في كانون الأول . قال فأخبر أنه ينزل فيه الوباء ولا نعلم هل يختص بالشرب أو يعم الاستعمال والشرب فكان تجنبه أولى

. فهذا من ابن عقيل يدل على كراهة شربه أو تحريمه . وقال ابن حزم : من أوقد نارا يصطلي أو يطبخ أو ترك سراجا فنام فوقع حريق فأتلف ناسا وأموالا لم يضمن ، واحتج بما رواه عبد الرزاق وعبد الملك الصغاني عن معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا { النار جبار } رواه أبو داود والنسائي .

قال فوجب أن كل ما تلف بالنار هدر إلا نارا اتفق الجميع على تضمين صاحبها إذا تعمد الإتلاف ، فإن تعمد طرحها للإتلاف فعمد وإلا فخطأ ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية