الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ التفريق بين الذي يسلم وبين امرأته ]

المثال الأربعون : رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لم يكن يفرق بين من أسلم وبين امرأته إذا لم تسلم معه ، بلى متى أسلم الآخر فالنكاح بحاله ما لم تتزوج } هذه سنته المعلومة .

قال الشافعي : أسلم أبو سفيان بن حرب بمر الظهران ، وهي دار خزاعة ، وخزاعة مسلمون قبل الفتح ودار الإسلام ، ورجع إلى مكة ، وهند بنت عتبة مقيمة على غير الإسلام ، فأخذت بلحيته وقالت : اقتلوا الشيخ الضال ، ثم أسلمت هند بعد إسلام أبي سفيان بأيام كثيرة ، وقد كانت كافرة مقيمة بدار ليست بدار الإسلام ، وأبو سفيان بها مسلم وهند كافرة ، ثم أسلمت قبل انقضاء العدة واستقرا على النكاح ; لأن عدتها لم تنقض حتى أسلمت ، وكان كذلك حكيم بن حزام وإسلامه ، وأسلمت امرأة صفوان بن أمية وامرأة عكرمة بن أبي جهل بمكة ، وصارت دارهما دار الإسلام وظهر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، وهرب عكرمة إلى اليمن وهي دار حرب ، وصفوان يريد اليمن وهي دار حرب ، ثم رجع صفوان إلى مكة وهي دار الإسلام وشهد حنينا وهو كافر ثم أسلم فاستقرت عنده امرأته بالنكاح الأول ، وذلك أنه لم تتقض عدتها ، وقد حفظ أهل العلم بالمغازي أن امرأة من الأنصار كانت عند رجل بمكة فأسلمت وهاجرت إلى المدينة ، فقدم زوجها وهي في العدة ، فاستقرا على النكاح ، قال الزهري : لم يبلغني أن امرأة هاجرت إلى الله ورسوله وزوجها كافر مقيم بدار الكفر إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها ، وإنه لم يبلغنا أن امرأة فرق بينها وبين زوجها إذا قدم وهي في عدتها .

وفي صحيح البخاري { عن ابن عباس قال : كان المشركون على منزلتين من النبي صلى الله عليه وسلم : أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه ، وأهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه ; فكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر ، فإذا طهرت حل لها النكاح ، فإن هاجرت قبل أن تنكح ردت إليه } ، وفي سنن أبي داود عن ابن عباس قال : { رد رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب ابنته على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول ، ولم يحدث شيئا بعد ست سنين } وفي لفظ لأحمد : { ولم يحدث شهادة ولا صداقا } ، وعند الترمذي : { ولم يحدث نكاحا } ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن ليس بإسناده بأس ، وقد روي بإسناد ضعيف عن عمرو بن شعيب عن أبيه [ ص: 254 ] عن جده { أن النبي صلى الله عليه وسلم : ردها على أبي العاص بنكاح جديد } .

قال الترمذي : في إسناده مقال ، وقال الإمام أحمد : وهذا حديث ضعيف ، والصحيح أنه أقرهما على النكاح الأول ، وقال الدارقطني : هذا حديث لا يثبت ، والصواب حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها بالنكاح الأول ، وقال الترمذي في كتاب العلل له : سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث ، فقال : حديث ابن عباس في هذا الباب أصح من حديث عمرو بن شعيب ، فكيف تجعل هذا الحديث الضعيف أصلا ترد به السنة الصحيحة المعلومة ويجعل خلاف الأصول ؟ فإن قيل : إنما جعلناها خلاف الأصول لقوله تعالى : { لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } وقوله : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك } وقوله : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } ولأن اختلاف الدين مانع من ابتداء النكاح ; فكان مانعا من دوامه كالرضاع .

قيل : لا تخالف السنة شيئا من هذه الأصول ، إلا هذا القياس الفاسد ; فإن هذه الأصول إنما دلت على تحريم نكاح الكافر ابتداء والكافرة غير الكتابيين ، وهذا حق لا خلاف فيه بين الأمة ، ولكن أين في هذه الأصول ما يوجب تعجيل الفرقة بالإسلام وأن لا تتوقف على انقضاء العدة ؟ ومعلوم أن افتراقهما في الدين سبب لافتراقهما في النكاح ، ولكن توقف السبب على وجود شرطه وانتفاء مانعه لا يخرجه عن السببية ، فإذا وجد الشرط وانتفى المانع عمل عمله واقتضى أثره ، والقرآن إنما دل على السببية ، والسنة دلت على شرط السبب ومانعه كسائر الأسباب التي فصلت السنة شروطها وموانعها ، كقوله : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } وقوله : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } وقوله : { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } وقوله : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا } ونظائر ذلك ; فلا يجوز أن يجعل بيان الشروط والموانع معارضة لبيان الأسباب والموجبات فتعود السنة كلها أو أكثرها معارضة للقرآن ، وهذا محال .

التالي السابق


الخدمات العلمية