الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 12 ] كتاب الطهارات [ ص: 13 ] قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } الآية . [ ص: 14 ] ( ففرض الطهارة : غسل الأعضاء الثلاثة ، ومسح الرأس ) بهذا النص ، [ ص: 15 ] والغسل هو الإسالة والمسح هو الإصابة . وحد الوجه من قصاص الشعر إلى أسفل الذقن وإلى شحمتي الأذن ; لأن المواجهة تقع بهذه الجملة وهو مشتق منها ( والمرفقان والكعبان يدخلان في الغسل ) عندنا خلافا لزفر رحمه الله ، [ ص: 16 ] هو يقول : الغاية لا تدخل تحت المغيا كالليل في باب الصوم . ولنا أن هذه الغاية لإسقاط ما وراءها إذ لولاها لاستوعبت الوظيفة الكل ، وفي باب الصوم لمد الحكم إليها إذ الاسم يطلق على الإمساك ساعة ، [ ص: 17 ] والكعب هو العظم الناتئ هو الصحيح ومنه الكاعب . قال ( والمفروض في مسح الرأس مقدار الناصية وهو ربع الرأس ) لما روى المغيرة بن شعبة { أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال وتوضأ ومسح على ناصيته وخفيه } والكتاب مجمل فالتحق بيانا به ، وهو حجة على الشافعي في التقدير بثلاث شعرات ، وعلى مالك في اشتراط [ ص: 18 - 19 ] الاستيعاب . وفي بعض الروايات : قدره بعض أصحابنا بثلاث أصابع من أصابع اليد لأنها أكثر ما هو الأصل في آلة المسح .

التالي السابق


كتاب الطهارات

جمعها على إرادة الأنواع باعتبار متعلقها من الحدث والخبث ، وآلتها من الماء والتراب ، وسبب وجوبها قيل الحدث والخبث . ورد بأنهما ينقضانها فكيف يوجبانها وقد يقال : لا منافاة بين نقضهما شرعا الصفة [ ص: 13 ] الحاصلة عن تطهير سابق وإيجاب تطهير آخر مستأنف .

والأولى أن يقال : السببية إنما تثبت بدليل الجعل لا بمجرد التجويز ، وهو مفقود ، واختاروا أنه إرادة ما لا يحل إلا بها ، ولا يخفى أن مجرد الإرادة لا يظهر وجه إيجابها شيئا ; لأنها لا تستلزم لحوق الشروع المستلزم عدم الطهارة في الصلاة لو لم تقدم ، فحقيقة سببها وجوب ما لا يحل إلا بها لما عرف أن إيجاب الشيء يتضمن إيجاب شرطه لا لفظا لغة ، وكون الإرادة مضمرة في قوله تعالى { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } يقيد تعليق وجوب الطهارة بالإرادة المستلحقة للشروع ، وليس ذلك إلا ; لأن الشروع مشروط بها ، فآل الأمر إلى أن وجوبها بسبب فعل مشروطها ، إلا أن وجوبها بوجوبه ظاهر ، وأما بنقله فليس فيه إلا الإرادة ، إذ لا وجوب إلا بعد الشروع عند بعض الأئمة ، ولا نعلم قائلا بوجوب الطهارة بمجرد إرادة النافلة حتى يأثم بتركها وإن لم يصلها ، وجعلها سببا بشرط الشروع يوجب تأخر وجوب الوضوء وفيه المحذور ، فإن [ ص: 14 ] إيجابه شرطا بإيجاب تقديمه عليه . ويمكن كون إرادة النافلة سبب وجوب أحد الأمرين : إما الوضوء ، وإما ترك النافلة على معنى عدم الخلو فيجوز اجتماعهما ، فهي حينئذ سبب وجوب واجب مخير فيصدق أنها سبب وجوبه في الجملة ، وهذا كله على تقدير كونها سبب وجوب الأداء ، أما إذا جعلت سبب أصل الوجوب فالإشكال أخف .

وأركانها في الحدث الأصغر أربعة مذكورة في الكتاب ، وفي الأكبر غسل ظاهر البدن والفم والأنف ، وفي الخبث إزالة العين بالمائع الطاهر واستعماله ثلاثا فيما لا يرى ( قوله بهذا النص ) لنفي أن وجوب غسل الرجل بالحديث فقط ، ووجهه أن قراءة نصب الرجل عطف على المغسول ، وقراءة جرها كذلك والجر للمجاورة .

وعليه أن يقال بل هو عطف على المجرور ، وقراءة النصب عطف على محل الرءوس وهو محل يظهر في الفصيح ، وهذا أولى [ ص: 15 ] لتخريج القراءتين به على المطرد ، بخلاف تخريج الجر على الجوار .

وقول ابن الحاجب إن العرب إذا اجتمع فعلان متقاربان في المعنى ولكل متعلق جوزت حذف أحدهما وعطف متعلق المحذوف على متعلق المذكور كأنه متعلقه كقولهم : متقلدا سيفا ورمحا ، وتقلدت بالسيف والرمح ، وعلفتها تبنا وماء باردا ، والحمل على الجوار ليس بجيد ; إذ لم يأت في القرآن ولا كلام فصيح انتهى

إنما يتم إذا كان إعراب المتعلقين من نوع واحد كما في علفتها وسقيتها ، وهنا الإعراب مختلف ; لأنه على ما قال يكون الأرجل منصوبا ; لأنه معلول اغسلوا المحذوف فحين ترك إلى الجر لم يكن إلا لمجاورة إعراب الرءوس ، فما هرب منه وقع فيه .

فإن قلت : حاصل هذا تجويز أن يراد بالنص هذا الوجه من الاستعمال ، وتجويزه لا يوجب وقوعه بل حتى توجبه قرينة كتعيين بعض مفاهيم المشترك ، وذلك منتف هنا .

فالجواب : بل ثابت ، وهو إطباق رواة وضوئه صلى الله عليه وسلم على حكاية الغسل ليس غير ، فكانت السنة قرينة منفصلة توجب إرادة استعمال الموافق لها بالنص ، هذا . وقد ورد الحمل على الجوار في بعض الأحاديث .

فإن صحت وقلنا بجواز الاستدلال بالحديث في العربية لم يصح قوله ولا كلام فصيح ، وفي المسألة ثلاثة مذاهب : الإطلاق ، والمنع ، والتفصيل بين كون الراوي عربيا فنعم أو عجميا فلا .

وحل النصب على حالة ظهور الرجل والجر على المسح حالة استتارها بالخلف حملا للقراءتين على الحالتين .

قال في شرح المجمع : فيه نظر ; لأن الماسح على الخف ليس ماسحا على الرجل حقيقة ولا حكما ، لأن الخف اعتبر مانعا سراية الحدث إلى القدم فهي طاهرة ، وما حل بالخف أزيل بالمسح فهو على الخف حقيقة وحكما ( قوله : والغسل الإسالة ) يفيد أن الدلك ليس من حقيقته خلافا لمالك فلا يتوقف تحققه عليه ، ومرجعهم فيه قول العرب غسلت المطر الأرض ، وليس في ذلك إلا الإسالة وهو ممنوع بأن وقعها من علو خصوصا مع الشدة والتكرار : أي دلك وهم لا يقولونه إلا إذا نظفت الأرض ، وهو إنما يكون بدلك ، وبأنه غير مناسب للمعنى المعقول من شرعية الغسل وهو تحسين هيئة الأعضاء الظاهرة القيام بين يدي الرب سبحانه وتعالى تخفيفا ، وإلا فالقياس الكل ، والناس بين حضري وقروي خشن الأطراف لا يزيل ما استحكم في خشونتها إلا الدلك ، فالإسالة لا تحصل مقصود شرعيتها ، ثم حد الإسالة التي هي الغسل : أن يتقاطر الماء ولو قطرة عندهما ، وعند أبي يوسف يجزئ إذا سال على العضو ، وإن لم يقطر

( قوله من قصاص الشعر ) خرج مخرج العادة ، وإنما طوله من مبدإ سطح الجبهة إلى أسفل اللحيين حتى لو كان أصلع لا يجب من قصاصه ، ويجزئ المسح على الصلعة في الأصح والقصاص مثلث القاف

( قوله وإلى شحمتي الأذن ) يعطي ظاهره وجوب [ ص: 16 ] إدخال البياض المعترض بين العذار والأذن بعد نباته وهو قولهما خلافا لأبي يوسف ; لأن المسقط هو النابت ولم يقم به ، ويعطي أيضا وجوب الإسالة على شعر اللحية ; لأنه أوجب غسل الوجه وحده بذلك .

واختلفت فيه الروايات عند أبي حنيفة ، فعنه يجب مسح ربعها ، وعنه مسح ما يلاقي البشرة ، وعنه لا يتعلق به شيء وهو رواية عن أبي يوسف ، وعن أبي يوسف استيعابها .

وأشار محمد رحمه الله في الأصل إلى أنه يجب غسل كله ، قيل وهو الأصح .

وفي الفتاوى الظهيرية وعليه الفتوى ; لأنه قام مقام البشرة فتحول الفرض إليه كالحاجب .

وقال في البدائع عن ابن شجاع : إنهم رجعوا عما سوى هذا ، كل هذا في الكثة ، أما الخفيفة التي ترى بشرتها فيجب إيصال الماء إلى ما تحتها ، ولو أمر الماء على شعر الذقن ثم حلقه لا يجب غسل الذقن .

وفي البقالي : لو قص الشارب لا يجب تخليله ، وإن طال يجب تخليله وإيصال الماء إلى الشفتين ، وكأن وجهه أن قطعه مسنون فلا يعتبر قيامه في سقوط غسل ما تحته ، بخلاف اللحية فإن إعفاءها هو المسنون ، بخلاف ما لو نبتت جلدة لا يجب قشرها وإيصال الماء إلى ما تحتها ، بل لو أسال عليها أجزأ ; لأنه مخير في قشرها ; إذ لم ينقل فيه سنة

والأصل العدم فلم يعتبر قيامها مانعا من الغسل ، والمصنف في التجنيس بعد إيصال الماء إلى منابت شعر الحاجبين والشارب من الآداب من غير تفصيل ، وأما الشفة فقيل تبع للفم .

وقال أبو جعفر : ما انكتم عند انضمامه تبع له وما ظهر فللوجه .

وفي الجامع الأصغر : إن كان وافر الأظفار وفيها درن أو طين أو عجين أو المرأة تضع الحناء جاز في القروي والمدني .

قال الدبوسي : هذا صحيح وعليه الفتوى .

وقال الإسكاف : يجب إيصال الماء إلى ما تحته إلا الدرن لتولده منه .

وقال الصفار فيه : يجب الإيصال إلى ما تحته إن طال الظفر ، وهذا حسن ; لأن الغسل وإن كان مقصورا على الظواهر لكن إذا طال الظفر يصير بمنزلة عروض الحائل كقطرة شمعة ونحوه ; لأنه عارض .

وفي النوازل يجب في المصري لا القروي ; لأن دسومة أظفار المصري مانعة وصول الماء بخلاف القروي ، ولو لزق بأصل ظفره طين يابس ونحوه أو بقي قدر رأس الإبرة من موضع الغسل لم يجز ، ولا يجب نزع الخاتم وتحريكه إذا كان واسعا ، والمختار في الضيق الوجوب ، ولو قطعت يده أو رجله فلم يبق من المرفق والكعب شيء يسقط الغسل ، ولو بقي وجب ، ولو طال أظفاره حتى خرجت عن رءوس الأصابع وجب غسلها قولا واحدا ، ولو خلق له يدان على المنكب فالتامة هي الأصلية يجب غسلها ، والأخرى زائدة فما حاذى منها محل الفرض وجب غسله وما لا فلا ( قوله : هو يقول الغاية لا تدخل ) أي هذه الغاية المذكورة هنا لا تدخل تحت المغيا ، فاللام للعهد الذكري غايته أنه لم يبين وجهه .

[ ص: 17 ] وقوله كالليل في الصوم تنظير لا قياس لعدم الجامع ، فاندفع ما قيل : المقرر في الأصول لزفر الاستدلال بتعارض الأشباه وهو أن من الغايات ما يدخل ومنها ما لا فاحتملت هذه كلا منهما فلا تدخل بالشك ، وأيضا ما بعد المرفق والكعب في دخوله في مسمى اليد والرجل اشتباه ، فبتقدير دخوله تدخل وبعدمه لا للأصل المقرر ، وهو أن ما بعد الغاية إن دخل في المسمى لولا ذكرها دخل وإلا فلا تدخل بالشك ، وما أورد على هذا الأصل من أنه لو حلف لا يكلم فلانا إلى غد لا يدخل مع أنه يدخل لو تركت للغاية غير قادح فيه ; لأن الكلام هنا في مقتضى اللغة ، والأيمان تبنى على العرف ، وجاز أن يخالف العرف اللغة ، وكونه صلى الله عليه وسلم أدار الماء على مرافقه لا يستلزم الافتراض لجواز كونه على وجه السنة كالزيادة في مسح الرأس إلى أن استوعبه ، ولا مخلص إلا بنقل دخولها في المسمى لغة وهو أوجه القولين بشهادة غلبة الاستعمال به ، وكونه إذا كان كذلك فتكون الغاية داخلة لغة ، وأيضا على تقدير ما قال يثبت الإجمال في دخولها فيلتحق به قوله عليه الصلاة والسلام { ويل للعراقيب من النار } بيانا للتوعد على تركه فيكون اقتصاره صلى الله عليه وسلم على المرافق وقع بيانا للمراد من اليد فيتعين دخول ما أدخله .

وقوله : اغسل يدك للأكل من إطلاق اسم الكل على البعض اعتمادا على القرينة ( قوله هو الصحيح ) احترازا عما روى هشام عن محمد رحمه الله أنه الذي في وسط الرجل عند معقد الشراك ، فإن مراد محمد بذلك الكعب الذي يقطع المحرم أسفله من الخف إذا لم يجد نعلين

( قوله والكتاب مجمل ) أي في حق الكمية ، لكن الشافعي رحمه الله يمنعه ويقول : هذا [ ص: 18 ] مطلق لا مجمل ، وإنه لم يقصد إلى كمية مخصوصة أجمل فيها ، بل إلى الإطلاق ليسقط بأدنى ما يطلق عليه مسح الرأس على أن الذي في حديث المغيرة مسح على ناصيته لا يقتضي استيعاب الناصية لجواز كون ذكرها لدفع توهم أنه مسح على الفود أو القذال فلا يدل على مطلوبكم ، ولو نظرنا إليه على ما رواه مسلم عن المغيرة { أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته } كان محل النزاع في الباء كالآية أنها للتبعيض أو لا ، ولو قلنا إنها للإلصاق لزم التبعيض بصريح تقريركم في قوله تعالى { وامسحوا برءوسكم } لدخولها على المحل كما سنذكر ، فالأولى أن يستدل برواية أبي داود عن أنس رضي الله عنه { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية ، فأدخل يديه من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه } وسكت عليه أبو داود فهو حجة ، وظاهره استيعاب تمام المقدم ، وتمام مقدم الرأس هو الربع المسمى بالناصية .

وقطرية بكسر القاف وسكون الطاء المهملة : ثياب حمر لها أعلام منسوبة إلى قطر موضع بين عمان وسيف البحر عن الأزهري ، وقال غيره : ضرب من البرود فيه حمرة ولها أعلام فيها بعض الخشونة ، ومثله ما رواه البيهقي عن عطاء { أنه صلى الله عليه وسلم توضأ فحسر العمامة ومسح مقدم رأسه ، أو قال ناصيته } فإنه حجة وإن كان مرسلا عندنا كيف وقد اعتضد بالمتصل .

بقي شيء ، وهو أن ثبوت الفعل كذلك لا يستلزم نفي جواز الأقل فلا بد فيه من ضم الملازمة القائلة لو جاز الأقل لفعله مرة تعليما لجاز وتسلم ، وقد تمنع بأن الجواز إذا كان مستفادا من غير الفعل لم يحتج إليه فيه ، وهنا كذلك نظرا إلى الآية فإن الباء فيها للتبعيض .

وذلك لا يفيد نفي جواز الأقل فيرجع البحث إلى دلالة الآية ، ونقول فيه إن الباء للإلصاق ، وهو المعنى المجمع عليه لها ، بخلاف التبعيض فإن المحققين من أئمة العربية ينفون كونه معنى مستقلا للباء ، بخلاف ما إذا جاء في ضمن الإلصاق كما فيما نحن فيه ، فإن إلصاق الآلة بالرأس الذي هو المطلوب لا يستوعب الرأس ، فإذا ألصق فلم يستوعب خرج عن العهدة بذلك البعض لا لأنه هو المفاد بالباء .

وتمام تحقيقه فيما كتبناه على البديع في الأصول ، وحينئذ يتعين الربع ; لأن اليد إنما تستوعب قدره غالبا فلزم .

وأما رواية جواز قدر الثلاث الأصابع ، وإن صححها بعض المشايخ نظرا إلى أن الواجب إلصاق اليد والأصابع أصلها ; ولهذا يلزم كمال دية اليد بقطعها [ ص: 19 ] والثلاث أكثرها ، وللأكثر حكم الكل ، وهو المذكور في الأصل فيحمل على أنه قول محمد رحمه الله لما ذكر الكرخي والطحاوي عن أصحابنا أنه مقدار الناصية ، ورواه الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله .

ويفيد أنها غير المنصور رواية قول المصنف ، وفي بعض الروايات قدره ودراية أن المقدمة الأخيرة في حيز المنع ; لأن هذا من قبيل المقدر الشرعي بواسطة تعدي الفعل إلى تمام اليد فإن به يتقدر قدرها من الرأس وفيه يعتبر عين قدره ، وقولنا عين قدره ; لأنه لو أصاب المطر قدر الفرض سقط ، ولا تشترط إصابته باليد ; لأن الآلة لم تقصد إلا للإيصال إلى المحل فحيث وصل استغني عن استعمالها ، ولو مسح ببلل في يده لم يأخذه من عضو آخر جاز لا إن أخذه ولو بأصبع واحدة مدها قدر الفرض جاز عند زفر وعندنا لا يجوز ، وعللوا بأن البلة صارت مستعملة ، وهو مشكل بأن الماء لا يصير مستعملا قبل الانفصال ، وما قيل الأصل ثبوت الاستعمال بنفس الملاقاة لكنه سقط في المغسول للحرج اللازم بإلزام إصابة كل جزء بإسالة غير المسال على الجزء الآخر ، ولا حرج في المسح ; لأنه يحصل بمجرد الإصابة فبقي فيه على الأصل ، دفع بأنه مناقض لما علل به لأبي يوسف رحمه الله في مسألة إدخال الرأس في الإناء فإن الماء طهور عنده ، فقالوا : المسح حصل بالإصابة ، والماء إنما يأخذ حكم الاستعمال بعد الانفصال والمصاب به لم يزايل العضو حتى عدل بعض المتأخرين إلى التعليل بلزوم انفصال بلة الأصبع بواسطة المد فيصير مستعملا لذلك ، بخلاف المصاب في إدخال الرأس الإناء ، وهذا كله يستلزم أن مد أصبعين لا يجوز وقد صرحوا به ، وكذا يستلزم عدم جواز مد الثلاث على القول بأنه لا يجزئ أقل من الربع ، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ; لأنه إن أخذ الاستعمال بالملاقاة أو انتقلت البلة لزم ذلك ، لكني لم أر في مد الثلاث إلا الجواز

واختيار شمس الأئمة أن المنع في مد الأصبع والاثنتين غير معلل باستعمال البلة بدليل أنه لو مسح بأصبعين في التيمم لا يجوز مع عدم شيء يصير مستعملا خصوصا إذا تيمم على الحجر الصلد ، بل الوجه عنده أنا مأمورون بالمسح باليد والأصبعان منها لا تسمى يدا ، بخلاف الثلاث لأنها أكثر ما هو الأصل فيها ، وهو حسن لكنه يقتضي تعيين الإصابة باليد ، وهو منتف بمسألة المطر .

وقد يدفع بأن المراد تعيينها أو ما يقوم مقامها من الآلات عند قصد الإسقاط بالفعل اختيارا ، غير أن لازمه كون تلك الآلة التي هي غير اليد مثلا قدر ثلاث أصابع من اليد ، حتى لو [ ص: 20 ] كان عودا مثلا لا يبلغ ذلك القدر قلنا بعدم جواز مده .

وقد يقال عدم الجواز بالأصبع بناء على أن البلة تتلاشى وتفرغ قبل بلوغ قدر الفرض ، بخلاف الأصبعين فإن الماء ينحمل فيه بين الأصبعين المضمومتين فضل زيادة تحتمل الامتداد إلى قدر الفرض ، وهذا مشاهد أو مظنون فوجب إثبات الحكم باعتباره ، فعلى اعتبار صحة الاكتفاء بقدر ثلاث أصابع يجوز مد الأصبعين ; لأنه ما بينهما من الماء يمتد قدر أصبع ثالث ، وعلى اعتبار توقف الإجزاء على الربع لا يجوز ; لأن ما بينهما مما لا يغلب على الظن إيعابه الربع ، إلا أن هذا يعكر عليه عدم جواز التيمم بأصبعين .

وأما الجواز بجوانب الأصبع فإنه بناء على رواية الاكتفاء بثلاث أصابع ، ولو أدخل رأسه إناء ماء ناويا للمسح فعند أبي يوسف يجوز عن الفرض .

والماء طهور ، وعند محمد لا يجوز والماء مستعمل .

وقول أبي يوسف أحسن ; لأن الماء لا يعطى له حكم الاستعمال إلا بعد الانفصال ، والذي لاقى الرأس من أجزائه لصق به فطهره وغيره لم يلاقه فلم يستعمل وفيه نظر ، ثم محل المسح ما فوق الأذنين ، فلو مسح على شعره أجزأه ، بخلاف ما لو كانت ذؤابتاه مشدودتين على رأسه فمسح على أعلاهما فإنه لا يجوز ، والمسنون في كيفية المسح أن يضع كفيه وأصابعه على مقدم رأسه آخذا إلى قفاه على وجه يستوعب ، ثم يمسح أذنيه على ما يذكره ، وأما مجافاة السباحتين مطلقا ليمسح بهما الأذنين والكفين في الإدبار ليرجع بهما على الفودين فلا أصل له في السنة ، لأن الاستعمال لا يثبت قبل الانفصال والأذنان من الرأس حتى جاز اتحاد بلتهما ، ولأن أحدا ممن حكى وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤثر عنه ذلك ، فلو كان ذلك من الكيفيات المسنونة وهم شارعون في حكايتها لترتكب وهي غير متبادرة لنصوا عليها .

وفي فتاوى أهل سمرقند : إذا دهن رجليه ثم توضأ وأمر الماء على رجليه ولم يقبل الماء للدسومة جاز الوضوء ; لأنه وجد غسل الرجلين .

واعلم أن حديث المغيرة المذكور في الكتاب تمام متنين رواهما المغيرة أحدهما ما قدمناه من رواية مسلم عنه { أنه عليه الصلاة والسلام توضأ ومسح بناصيته على الخفين } والآخر رواه ابن ماجه عنه { أنه عليه الصلاة والسلام أتى سباطة قوم فبال قائما } فجمع القدوري بين مرويي المغيرة ووهم الشيخ علاء الدين إذ جعله مركبا من حديث المغيرة { أنه صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وخفيه } ، ومن حديث حذيفة في السباطة والبول قائما وهو يقتضي تخطئة القدوري في نسبة حديث السباطة إلى المغيرة وليس كذلك ، بل قد رواه أيضا المغيرة كما أخرجه ابن ماجه




الخدمات العلمية