الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              ولما كان الله سبحانه وتعالى إنما حرم الخبائث لما فيها من [ ص: 27 ] الفساد إما في العقول أو الأخلاق أو غيرها ، ظهر على الذين استحلوا بعض المحرمات من الأطعمة أو الأشربة من النقص بقدر ما فيها من المفسدة ، ولولا التأويل لاستحقوا العقوبة .

              ثم إن الإمام أحمد وغيره من علماء الحديث زادوا في متابعة السنة على غيرهم بأن أمروا بما أمر الله به ورسوله مما يزيل ضرر بعض المباحات ، مثل : لحوم الإبل فإنها حلال بالكتاب والسنة والإجماع ، ولكن فيها من القوة الشيطانية ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : إنها جن خلقت من جن ، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود : الغضب من الشيطان ، وإن الشيطان من النار ، وإنما تطفأ النار بالماء ، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ فأمر بالتوضؤ من الأمر العارض من الشيطان ، فأكل لحمها يورث قوة شيطانية تزول بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الوضوء من لحمها ، كما صح ذلك عنه من غير وجه من حديث جابر بن سمرة ، والبراء بن عازب ، وأسيد بن الحضير ، وذي [ ص: 28 ] الغرة وغيرهم ، فقال مرة : توضؤوا من لحوم الإبل ولا توضؤوا من لحوم الغنم ، وصلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل ، فمن توضأ من لحومها اندفع عنه ما يصيب المدمنين لأكلها من غير وضوء - كالأعراب - من الحقد وقسوة القلب التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله المخرج عنه في الصحيحين : إن الغلظة وقسوة القلوب في الفدادين أصحاب الإبل ، وإن السكينة في أهل الغنم .

              واختلف عن أحمد : هل يتوضأ من سائر اللحوم المحرمة ؟ على روايتين ، بناء على أن الحكم مختص بها ، أو أن المحرم أولى بالتوضؤ منه من المباح الذي فيه نوع مضرة .

              وسائر المصنفين من أصحاب الشافعي وغيره وافقوا أحمد على هذا الأصل ، وعلموا أن من اعتقد أن هذا منسوخ بترك الوضوء مما مست النار فقد أبعد ؛ لأنه فرق في الحديث بين اللحمين ، ليتبين أن العلة هي الفارقة بينهما لا الجامع .

              وكذلك قالوا بما اقتضاه الحديث : من أنه يتوضأ منه نيئا ومطبوخا ؛ ولأن هذا الحديث كان بعد النسخ ، ولهذا قال في لحم الغنم : وإن شئت فلا تتوضأ ؛ ولأن النسخ لم يثبت إلا بالترك من لحم غنم ، فلا عموم له ، وهذا معنى قول جابر : " كان آخر الأمرين [ ص: 29 ] منه : ترك الوضوء مما مست النار " فإنه رآه يتوضأ ، ثم رآه أكل لحم غنم ولم يتوضأ ، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم صيغة عامة في ذلك ، ولو نقلها لكان فيه نسخ للخاص بالعام الذي لم يثبت شموله لذلك الخاص عينا ، وهو أصل لا يقول به أكثر المالكية والشافعية والحنبلية .

              هذا مع أن أحاديث الوضوء مما مست النار لم يثبت أنها منسوخة ، بل قد قيل : إنها متأخرة ، ولكن أحد الوجهين في مذهب أحمد : أن الوضوء منها مستحب ليس بواجب ، والوجه الآخر : لا يستحب .

              فلما جاءت السنة بتجنب الخبائث الجسمانية والتطهر منها كذلك جاءت بتجنب الخبائث الروحانية والتطهر منها ، حتى قال صلى الله عليه وسلم : إذا قام أحدكم من الليل فليستنشق بمنخريه من الماء فإن الشيطان يبيت على خيشومه ، وقال : إذا قام أحدكم من نوم الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا ، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده . فعلل الأمر بالغسل بمبيت الشيطان على خيشومه ؛ فعلم أن ذلك سبب للطهارة من غير النجاسة الظاهرة ، فلا يستبعد أن يكون هو السبب لغسل يد القائم من نوم الليل .

              وكذلك نهى عن الصلاة في أعطان الإبل وقال : إنها جن خلقت من جن ، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : الأرض كلها مسجد [ ص: 30 ] إلا المقبرة والحمام ، وقد روي عنه : أن الحمام بيت الشيطان ، وثبت عنه أنه لما ارتحل عن المكان الذي ناموا فيه عن صلاة الفجر قال : إنه مكان حضرنا فيه الشيطان .

              فعلل صلى الله عليه وسلم الأماكن بالأرواح الخبيثة كما يعلل بالأجسام الخبيثة ، وبهذا يقول أحمد وغيره من فقهاء الحديث ، ومذهبه الظاهر عنه أن ما كان مأوى للشياطين - كالمعاطن والحمامات - حرمت [ ص: 31 ] الصلاة فيه ، وما عرض الشيطان فيه - كالمكان الذي ناموا فيه عن الصلاة - كرهت فيه الصلاة .

              والفقهاء الذين لم ينهوا عن ذلك : إما لأنهم لم يسمعوا هذه النصوص سماعا تثبت به عندهم ، أو سمعوها ولم يعرفوا العلة فاستبعدوا ذلك عن القياس فتأولوه .

              وأما من نقل عن الخلفاء الراشدين أو جمهور الصحابة خلاف هذه المسائل ، وأنهم لم يكونوا يتوضئون من لحوم الإبل : فقد غلط عليهم ، وإنما توهم ذلك لما نقل عنهم : " أنهم لم يكونوا يتوضؤون مما مست النار " ، وإنما المراد أن أكل ما مس النار ليس هو سببا عندهم لوجوب الوضوء ، والذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الوضوء من لحوم الإبل ليس سببه مس النار ، كما يقال : كان فلان لا يتوضأ من مس الذكر ، وإن كان يتوضأ منه إذا خرج منه مذي .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية