الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون )

                          هاهنا إشارتان ، والمشار إليه عند الجمهور واحد ، وهو ما في الآيتين السابقتين من المؤمنين من غير أهل الكتاب والمؤمنين منهم ، وكرر الإشارة للإعلام بأنه لا بد من تحقق الوصفين لتحقق الحكم بأنهم على هدى وأنهم هم المفلحون ، كذا قال بعضهم وهو تكلف ظاهر ، وكذا قولهم : إن تنكير ( هدى ) هنا للتعظيم . وشيخنا قد جعل الإشارتين لنوعي المؤمنين المذكورين في الآية السابقة بأسلوب اللف والنشر المرتب .

                          قال : إن الإشارة الأولى:

                          قال : ( أولئك على هدى من ربهم ) في هذه الآية للفرقة الأولى : وهم الذين ينتظرون [ ص: 115 ] الحق ، لأنهم على شيء منه - كما يدل عليه تنكير ( هدى ) الدال على النوع - وينتظرون بيانا من الله تعالى ليأخذوا به ، ولذلك تقبلوه عندما جاءهم ، فقد أشعر الله قلوبهم الهداية بما آمنوا به من الغيب ، وأقاموا الصلاة بالمعنى الذي سبق ، وأنفقوا مما رزقهم الله .

                          وأما الفرقة الثانية : وهم المؤمنون بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - فعلى هدى تشرك فيه تلك الفرقة الأولى ، لكن على وجه أكمل ؛ لأنها مؤمنة بالقرآن وعاملة به ، وقوله ( على هدى ) تعبير يفيد التمكن من الشيء كتمكن المستقر عليه ، كقولهم : " ركب هواه " ولقد كان أفراد تلك الفرقة ( أي الأولى ) على بصيرة وتمكن من نوع الهدى الذي كانوا عليه ، فإن كان هذا غير كاف لإسعادهم وفلاحهم ، فهو كاف لإعدادهم وتأهيلهم لهما بالإيمان التفصيلي المنزل ، ولذلك قبلوه عندما بلغتهم دعوته .

                          وإلى الفرقة الثانية وقعت الإشارة الثانية :

                          ( وأولئك هم المفلحون ) كما هو ظاهر ، وهم المفلحون بالفعل لاتصافهم بالإيمان الكامل بالقرآن ، وبما تقدمه من الكتب السماوية واليقين بالآخرة - لا مطلق الإيمان بالغيب إجمالا - ويرشد إلى التغاير بين مرجع الإشارتين ترك ضمير الفصل ( هم ) في الأولى وذكره في الثانية ، ولو كان المشار إليه واحدا لذكر الفصل في الأولى ؛ لأن المؤمنين بالقرآن هم الذين على الهدى الصحيح التام ، فهو خاص بهم دون سواهم ، لكنه اكتفى عن التنصيص على تمكنهم من الهدى بحصر الفلاح فيهم ، ومادة الفلح تفيد في الأصل معنى الشق والقطع ، ومثلها مادة الفلج بالجيم والفلخ بالخاء والفلذ والفلع والفلغ والفلق و الفل والفلم ، ويطلق الفلاح والفلج على الفوز بالمطلوب ، ولكن لا يقال : أفلح الرجل إذا فاز بمرغوبه عفوا من غير تعب ولا معاناة ، بل لا بد في تحقيق المعنى اللغوي لهذه المادة من السعي إلى الرغيبة والاجتهاد لإدراكها ، فهؤلاء ما كانوا مفلحين إلا بالإيمان بما أنزل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وما أنزل من قبله ، وباتباع هذا الإيمان بامتثال الأوامر واجتناب النواهي التي نيط بها الوعد والوعيد فيما أنزل إليه - صلى الله عليه وسلم - مع اليقين بالجزاء على جميع ذلك في الآخرة ، ويدخل في هذا كله ترك الكذب والزور وتزكية النفس من سائر الرذائل كالشر والطمع والجبن والهلع والبخل والجور والقسوة ، وما ينشأ عن هذه الصفات من الأفعال الذميمة ، وارتكاب الفواحش والمنكرات والانغماس في ضروب اللذات ، كما يدخل فيه الفضائل التي هي أضداد هذه الرذائل المتروكة ، وجميع ما سماه القرآن عملا صالحا من العبادات وحسن المعاملة مع الناس ( والسعي في توفير منافعهم العامة والخاصة مع التزام العدل والوقوف عند ما حده الشرع القويم ، والاستقامة على صراطه المستقيم ) .

                          [ ص: 116 ] وجملة القول أن الإيمان بما أنزل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - : هو الإيمان بالدين الإسلامي جملة وتفصيلا ، فما علم من ذلك بالضرورة ولم يخالف فيه مخالف يعتد به ، فلا يسع أحدا جهله ، فالإيمان به إيمان ، والإسلام لله به إسلام ، وإنكاره خروج من الإسلام ، وهو الذي يجب أن يكون معقد الارتباط الإسلامي وواسطة الوحدة الإسلامية ، وما كان دون ذلك في الثبوت ودرجة العلم فموكول إلى اجتهاد المجتهدين ، ولا يصح أن يكون شيء من ذلك مثار اختلاف في الدين . زاد الأستاذ هنا بخطه عند قولنا : اجتهاد المجتهدين ما نصه :

                          ( أو ذوق العارفين أو ثقة الناقلين بمن نقلوا عنه ليكون معتمدهم فيما يعتقدون بعد التحري والتمحيص ، وليس لهؤلاء أن يلزموا غيرهم ما ثبت عندهم ، فإن ثقة الناقل بمن ينقل عنه حالة خاصة به لا يمكن لغيره أن يشعر بها حتى يكون له مع المنقول عنه في الحال مثل ما للناقل معه ، فلا بد أن يكون عارفا بأحواله وأخلاقه ودخائل نفسه ، ونحو ذلك مما يطول شرحه ، وتحصل الثقة للنفس بما يقول القائل ) .

                          وأقول : معنى هذا أن بعض أحاديث الآحاد تكون حجة على من ثبتت عنده واطمأن قلبه بها ، ولا تكون حجة على غيره يلزمه العمل بها ، ولذلك لم يكن الصحابة - رضي الله عنهم - يكتبون جميع ما سمعوا من الأحاديث ، ويدعون إليها مع دعوتهم إلى اتباع القرآن والعمل به وبالسنة العملية المتبعة المبينة له إلا قليلا من بيان السنة ، كصحيفة علي - كرم الله وجهه - المشتملة على بعض الأحكام : كالدية ، وفكاك الأسير ، وتحريم المدينة كمكة ، ولم يرض الإمام مالك من الخليفتين : المنصور ، والرشيد أن يحملا الناس على العمل بكتبه حتى ( الموطأ ) ، وإنما يجب العمل بأحاديث الآحاد على من وثق بها : رواية ، ودلالة ، وعلى من وثق برواية أحد وفهمه لشيء منها أن يأخذه عنه ، ولكن لا يجعل ذلك تشريعا عاما ، وأما ذوق العارفين ، فلا يدخل شيء منه في الدين ، ولا يعد حجة شرعية بالإجماع ، إلا ما كان من استفتاء القلب في الشبهات ، والاحتياط في تعارض البينات .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية