الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3111 (6) باب

                                                                                              من حلف على يمين فرأى خيرا منها فليكفر

                                                                                              [ 1750 ] عن زهدم الجرمي، قال: كنا عند أبي موسى فدعا بمائدته وعليها لحم دجاج، فدخل رجل من بني تيم الله أحمر شبيه بالموالي فقال له: هلم، فتلكأ، فقال: هلم فإني قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منه، فقال الرجل: إني رأيته يأكل شيئا فقذرته، فحلفت ألا أطعمه، فقال: هلم أحدثك عن ذلك: إني أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من الأشعريين نستحمله فقال: " والله ما أحملكم، وما عندي ما أحملكم عليه". فلبثنا ما شاء الله، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهب إبل، فدعا بنا، فأمر لنا بخمس ذود غر الذرى، قال: فلما انطلقنا قال بعضنا لبعض: أغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه، لا يبارك لنا، فرجعنا إليه فقلنا: يا رسول الله، إنا أتيناك نستحملك، وإنك حلفت ألا تحملنا، ثم حملتنا، فنسيت يا رسول الله؟ قال: "إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها، فانطلقوا فإنما حملكم الله عز وجل".

                                                                                              وفي رواية: "إلا كفرت يميني، وأتيت الذي هو خير".


                                                                                              رواه البخاري (7555)، ومسلم (1649) (9 و 7)، وأبو داود (3276)، والنسائي ( 7 \ 9 ).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (6) ومن باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر

                                                                                              (قوله: إن أبا موسى دعا بمائدته وعليها لحم دجاج ) يدل على أن أكل الطيبات على الموائد جائز معمول به عندهم. وأن ذلك لا يناقض الزهد، ولا ينقصه خلافا لبعض متقشفة المتزهدة.

                                                                                              وقول الرجل: ( رأيته يأكل شيئا فقذرته ) يعني به: أنه رأى الدجاج يأكل نجاسة فاستقذره، فحلف ألا يأكله لذلك. وظاهر قول هذا الرجل؛ أنه كان يكره أكل ما يأكل النجاسات من الحيوانات. وقد اختلف في ذلك. فكرهه قوم، فكان ابن عمر لا يأكل الدجاجة حتى يقصرها أياما. ومثل ذلك روي عن ابن القاسم في الجدي الذي ارتضع على خنزيرة: إنه لا يذبح حتى يذهب ما في بطنه. وكره الكوفيون أكل لحوم الجلالة ، والشافعي : إن كان أكلها أو غالبه النجاسة، فإن كان غالبه الطهارة لم يكرهه. وأجاز مالك أكل لحوم الإبل الجلالة، وأكل ما يأكل الجيف من الطير وغيره لبعد الاستحالة.

                                                                                              [ ص: 628 ] قلت: وهذا محمول على ما إذا ذهب ما في بطونها من ذلك، كما حكيناه عن ابن القاسم ؛ لأن مالكا قد قال في روث ما يأكل النجاسة وبوله: أنه نجس، بخلاف أصله في أن الأبوال تابعة للحوم.

                                                                                              وكره ابن حبيب من أصحابنا أكل ما يأكل النجاسات مطلقا.

                                                                                              قلت: وقد روى أبو داود من حديث ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الجلالة وألبانها. وهو حجة لابن حبيب ؛ لولا أنه من رواية محمد بن إسحاق .

                                                                                              و (قوله: فتلكأ ) أي: تثاقل، وتأخر. و (نستحمله) أي: نسأله أن يحملنا؛ أي: يعطينا ما نتحمل عليه وبه، و (نهب إبل) أي: غنيمتها. والنهب: الغنيمة. وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا أوتر من أول الليل قال: أحرزت نهبي؛ أي: غنيمتي. وقد تقدم الكلام في الذود في كتاب الزكاة.

                                                                                              و (قوله: غر الذرى ) غر: جمع أغر. وأصله: الذي في جبهته بياض من الخيل. و (الذرى): جمع ذروة، وهي: من كل شيء أعلاه. والمراد ب (غر الذرى): أن تلك الإبل كانت بيض الأسنمة. وقد روي: (بقع الذرى) أي: فيها لمع بيض وسود. ومنه قيل: الغراب الأبقع، والشاة البقعاء: إذا كانا كذلك.

                                                                                              و (قوله: أغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه ) أي: وجدناه غافلا عنها. كما تقول العرب: أحمدت الرجل: وجدته محمودا. وأذممته: وجدته مذموما. فكأنه قال: [ ص: 629 ] وجدناه غافلا عنها، فاغتنمنا غفلته، فأخذنا منه في حال غفلته.

                                                                                              و (قوله: لا يبارك لنا ) أي: فيما أعطانا إن سكتنا عن ذلك ولم نعرفه. وفيه من الفقه ما يدل على جواز اليمين عند التبرم، وجواز رد السائل المثقل عند تعذر الإسعاف، وتأديبه بنوع من الإغلاظ بالقول. وذلك: أنهم سألوه في حال تحقق فيها: أنه لم يكن عنده شيء فأدبهم بذلك القول، ثم: إنه صلى الله عليه وسلم بقي مترقبا لما يسعف به طلبتهم، ويجبر به انكسارهم، فلما يسر الله تعالى ذلك عليه أعطاهم، وجبرهم على مقتضى كرم خلقه.

                                                                                              و (قوله: إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها )، وفي الرواية الأخرى: ( إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير ) اختلاف هاتين الروايتين أوجب اختلاف العلماء في الكفارة قبل الحنث هل تجزئ أم لا؟ على ثلاثة أقوال: جوازها مطلقا. وهو مذهب أربعة عشر من الصحابة، وجمهور الفقهاء. وهو مشهور مذهب مالك . وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تجزئ بوجه. وهي رواية أشهب عن مالك . وقال الشافعي : تجزئ بالإطعام، والعتق، والكسوة. ولا تجزئ بالصوم. وقد ذكر أصحابنا للخلاف في هذه المسألة سببا آخر. وهو اختلافهم في اليمين. هل هو جزء السبب، والحنث الجزء الآخر؟ أم ليس كذلك؟ بل وجود اليمين هو السبب فقط، والحنث شرط وجوب الكفارة. وبسط هذا في مسائل الخلاف.

                                                                                              وذكر مسلم في بعض طرق حديث أبي موسى الأشعري المردفة. حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا الصعق [ ص: 630 ] ابن حزن - بكسر العين - من الصعق، حدثنا مطر الوراق ، حدثنا زهدم الجرمي . وهذا سند فيه نظر. وذلك أن الدارقطني استدركه على مسلم ؛ فقال: ابن الصعق ، ومطر ليسا بالقويين، ولم يسمع مطر من زهدم .

                                                                                              قلت : وهذا لا عتب على مسلم فيه، ولا نقص يلحق كتابه بسبب ذلك؛ لأنه قد أخرج الحديث من طرق كثيرة صحيحة، ثم أردف هذا السند بعد تلك الطرق الصحيحة المتصلة، ولذلك قال فيه: عن زهدم قال: دخلت على أبي موسى ، وهو يأكل لحم دجاج ، وساق الحديث بنحو حديثهم، وزاد فيه: قال: إني والله ما نسيت. فذكره مردفا لأجل هذه اللفظة الزائدة، ثم هذا على ما شرطه في أول كتابه؛ حيث قسم الأسانيد إلى ثلاثة أقسام، وثلاث طبقات. فهذا السند من الطبقة الأخيرة؛ التي هي دون من قبلها، وفيها مغمز بوجه ما. وهذا يدل على أنه أدخل الثلاث الطبقات في كتابه خلافا لمن زعم: أنه لم يدخل فيه من الطبقة الثالثة أحدا. وذكر مسلم بعد هذا السند: ضريب بن نقير عن زهدم .

                                                                                              قال القاضي عياض : ضريب بن نقير : مصغران، ونفير هذا بالقاف أشهر. وهي رواية الصدفي ، والأسدي ، والتميمي من أشياخنا. وكذا قيدناه عنهم. وكان الخشني قيده بالفاء. وقال الحافظ أبو علي : يقال بهما، والقاف أشهر. وأما جبير بن نفير : فلم يختلف أنه بالفاء.

                                                                                              وقول أبي موسى : ( وافقته وهو غضبان ) وحلفه في تلك الحال يدل [ ص: 631 ] لمالك : على صحة قوله بلزوم حكم اليمين الواقعة في حال الغضب. وهو له حجة على الشافعي حيث قال: إنها لا تلزم، كما تقدم. ويدل أيضا على قول مالك حديث عدي بن حاتم المذكور.




                                                                                              الخدمات العلمية