الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                [ ص: 283 ] ( كتاب الرجوع عن الشهادة )

                                                                                                                                الكلام في هذا الكتاب في الأصل في موضع واحد ، وهو بيان حكم الرجوع عن الشهادة ، فنقول وبالله التوفيق : الرجوع عن الشهادة يتعلق به حكمان : أحدهما - يرجع إلى مال الشاهد ، والثاني - يرجع إلى نفسه أما الذي يرجع إلى ماله فهو وجوب الضمان ، والكلام فيه في ثلاثة مواضع : في بيان سبب وجوب الضمان ، وفي بيان شرائط الوجوب ، وفي بيان مقدار الواجب ، أما الأول - فسبب وجوب الضمان في هذا الباب إتلاف المال أو النفس بالشهادة ; ; لأن الضمان في الشرع إنما يجب إما بالالتزام أو بالإتلاف ، ولم يوجد الالتزام فيتعين الإتلاف فيها سببا لوجوب الضمان ، فإن وقعت إتلافا انعقدت سببا لوجوب الضمان وإلا فلا .

                                                                                                                                وعلى هذا يخرج ما إذا شهدا على رجل بألف ، وقضى القاضي بشهادتهما ، ثم رجعا أنهما يضمنان الألف ; لأنهما لما رجعا عن شهادتهما بعد القضاء تبين أن شهادتهما وقعت سببا إلى الإتلاف في حق المشهود عليه ، والتسبب إلى الإتلاف بمنزلة المباشرة في حق سببية وجوب الضمان ، كالإكراه على إتلاف المال وحفر البئر على قارعة الطريق ونحوه ، ( فإن قيل ) لما رجعا عن شهادتهما تبين أن قضاء القاضي لم يصح فتبين أن المدعي أخذ المال بغير حق ، فلم لا يرده إلى المشهود عليه ؟ قيل له : إنه بالرجوع لم يتبين بطلان القضاء ; لأن الشاهد غير مصدق في الرجوع في حق القاضي والمشهود له لوجهين : الأول - أن الرجوع يحتمل الصدق والكذب ، والقضاء بالحق للمشهود به نفذ بدليل من حيث الظاهر ، وهو الشهادة الصادقة عند القاضي ، فلا ينتقض الثابت ظاهرا بالشك والاحتمال فبقي القضاء ماضيا على الصحة والمدعى في يد المدعي كما كان .

                                                                                                                                والثاني - أن الشاهد في الرجوع عن شهادته متهم في حق المشهود له ، لجواز أن المشهود عليه غره بمال أو غيره ليرجع عن شهادته فيظهر كذب المدعي في دعواه فلم يصدق في الرجوع في حق المشهود له للتهمة ، إذ التهمة كما تمنع قبول الشهادة تمنع صحة الرجوع عن الشهادة ، فلم يصح الرجوع في حقه فلم ينقض القضاء ، ولا يسترد المدعى من يده ، ومعنى التهمة لا يتوهم في المشهود عليه فصح الرجوع في حقه ، إلا أنه لا يمكن إظهار الصحة في نقض القضاء والتوصل إلى عين المشهود به ، فيظهر في التوصل إلى بدله رعاية للجوانب كلها ، وإذا رجعا قبل القضاء لا يضمنان ; ; لأن الشهادة لا تصير حجة إلا بالقضاء ، فلا تقع تسبيبا إلى الإتلاف بدونه ، وعلى هذا إذا شهدا على رجل أنه طلق امرأته فقضى القاضي بشهادتهما ، ثم رجعا ، إن كان الطلاق بعد الدخول بأن كان الزوج مقرا بالدخول : لا ضمان عليهما لانعدام الإتلاف ; لأن المهر يجب بنفس العقد ، ويتأكد بالدخول لا بشهادتهما فلم تقع شهادتهما إتلافا ، فلم يجب الضمان ، وإن كان الطلاق قبل الدخول فقضى القاضي بنصف المهر بأن كان المهر مسمى أو بالمتعة بأن لم يكن المهر مسمى ثم رجعا : ضمنا ذلك للزوج ; لأن شهادتهما وإن لم توجب على الزوج شيئا من المهر ، لكنها أكدت الواجب لأن الواجب قبل الدخول كان محتملا للسقوط بأن جاءت الفرقة من قبلها وبشهادتهما بالطلاق تأكد الواجب عليه على وجه لا يحتمل السقوط بعده أصلا ، فصارت شهادتهما مؤكدة للواجب ، والمؤكد للواجب بمنزلة الواجب في الشرع ، كالمحرم إذا أخذ صيدا فذبحه رجل في يده يجب الجزاء على الآخذ ، ويرجع الآخذ بذلك على القاتل لوقوع القتل منه تأكيدا للجزاء الواجب على المحرم ، إذ لولا ذبحه لاحتمل السقوط بالإرسال ، فهو بالذبح أكد الواجب عليه فنزل المؤكد منه منزلة الواجب كذا هذا ، وعلى هذا إذا شهدا على رجل أنه أعتق عبدا أو أمة له ، وهو ينكر فقضى القاضي ، ثم رجعا يضمنان قيمة العبد أو الأمة لمولاه ; لأنهما بشهادتهما أتلفا عليه مالية العبد أو الأمة فيضمنان ، ويكون ولاؤه للمولى ; لأن الإعتاق نفذ عليه والولاء لمن أعتق ، فإن قيل : " هذا إتلاف بعوض وهو الولاء فلا يوجب الضمان " قيل له : " الولاء لا يصلح عوضا ; لأنه ليس بمال ، وإنما هو من أسباب الإرث فكان هذا إتلافا بغير عوض فيوجب الضمان " .

                                                                                                                                ولو شهدا على إقرار المولى أن هذه الأمة ولدت منه ، وهو منكر فقضى القاضي بذلك ، ثم رجعا فنقول هذا في الأصل لا يخلو من [ ص: 284 ] أحد وجهين : إما أن لم يكن معها ولد ، وإما أن كان معها ولد ، وكل ذلك لا يخلو إما أن رجعا في حال حياة المولى ، وإما أن رجعا بعد وفاته ، أما إذا لم يكن معها ولد ورجعا في حال حياة المولى يضمنان للمولى نقصان قيمتها ، فتقوم أمة قنا وتقوم أم ولد : لو جاز بيعها فيضمنان النقصان ; ; لأنهما أتلفا عليه بشهادتهما هذا القدر حال حياته فيضمنانه ، فإذا مات المولى عتقت الجارية ; لأنها أم ولده ، وأم الولد تعتق بموت سيدها ، ويضمنان بقية قيمتها للورثة ; لأنهما أتلفا بشهادتهما كل الجارية ، لكن بعضها في حال الحياة ، والباقي بعد الوفاة فيضمنان ، كذلك وإن كان معها ولد ورجعا في حال حياة المولى فإنهما يضمنان قيمة الولد ; لأنهما أتلفاه عليه .

                                                                                                                                ألا ترى أنه لولا شهادتهما لكان الولد عبدا له ، فهما بشهادتهما أتلفاه عليه فعليهما الضمان ، وعليهما ضمان نقصان قيمة الأم أيضا لما قلنا ، فإذا مات المولى بعد ذلك لم يكن مع الولد شريك في الميراث فلا يضمنان له شيئا ، ويرجعان على الولد بما قبض الأب منهما ; لأن في زعم الولدان رجوعهما باطل وأن ما أخذ الأب منهما أخذه بغير حق فصار مضمونا عليه فيؤدي من تركته إن كانت له تركة ، وإن لم يكن له تركة فلا ضمان على الولد ; لأن من أقر على مورثه بدين وليس للميت تركة لا يؤخذ من مال الوارث ، وإن كان معه أخ فإنهما يضمنان للأخ نصف البقية من قيمتها ; لأنهما أتلفا عليه ذلك القدر ، ويرجعان على الولد بما أخذه الأب منهما لما قلنا ، ولا يرجعان بما قبض الأخ ; لأن الأخ ظلم عليهما في زعمهما فليس لهما أن يظلما عليه ، ولا ضمان للأخ ما أخذ هذا من الميراث ; لأنهما ما أتلفا عليه الميراث لما نذكر إن شاء الله تعالى ، هذا إذا كان الرجوع في حال حياة المولى ، فأما إذا كان بعد وفاته ، فإن لم يكن مع الولد شريك في الميراث فلا ضمان عليهما ; لأن الولد يكذبهما في الرجوع ، وإن كان معه شريك في الميراث فإنهما يضمنان للأخ نصف البقية من قيمتهما لما قلنا ، ويضمنان للأخ نصف قيمة الولد ; ; لأنهما أتلفا عليه نصف الولد ، ولا يضمنان له ما أخذ هذا الولد من الميراث لما قلنا ، ولا يرجعان على الولد ههنا ; لأن هذا ظلم للأخ في زعمهما فليس لهما أن يظلما الولد ، هذا إذا كانت الشهادة في حال حياة المولى والرجوع عليه في حال حياته أو بعد وفاته .

                                                                                                                                فأما إذا كانت الشهادة بعد وفاته بأن مات رجل وترك ابنا وعبدا وأمة وتركة ، فشهد شاهدان أن هذا العبد ولدته هذه الأمة من الميت ، وصدقهما الولد والأمة ، وأنكر الابن فقضى القاضي بذلك وجعل الميراث بينهما ثم رجعا : يضمنان قيمة العبد والأمة ونصف الميراث للابن ، فرق بين حال الحياة وبين حال الممات ، فإن هناك لا يضمنان الميراث ، ووجه الفرق أن الشهادة بالنسب حال الحياة لا تكون شهادة بالمال والميراث لا محالة ; لأنه يجوز فيه التقدم والتأخر ، فمن الجائز أن يموت الأب أولا فيرثه الابن ، كما يجوز أن يموت الابن أولا ويرثه الأب ، فلم تكن الشهادة بالنسب شهادة بالمال والميراث لا محالة ، فلا تتحقق الشهادة إتلافا للمال فلا يضمنان ، بخلاف الشهادة بعد الموت فإنها شهادة بالمال لا محالة فقد أتلفا عليه نصف الميراث فيضمنان ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                                                                                                                ولو شهدا أنه دبر عبده فقضى القاضي بذلك ، ثم رجعا : يضمنان للمولى نقصان التدبير ، فيقوم قنا ، ويقوم مدبرا فيضمنان النقصان ; لأنهما أتلفا عليه حال حياته بشهادتهما هذا القدر فيضمنانه فإذا مات المولى بعد ذلك عتق العبد كله إن كان يخرج من الثلث ، ولا سعاية عليه ; لأنه مدبره ، ويضمنان للورثة بقية قيمته عبدا ; لأنهما أتلفا بشهادتهما بقية ماليته بعد موته ; لأن التدبير إعتاق بعد الموت ، ولو لم يكن له مال سوى المدبر عتق عليه مجانا ; لأن التدبير وصية فيعتبر بسائر الوصايا ، ويسعى في ثلثي قيمته عبدا قنا للورثة ; لأن الوصية فيما زاد على الثلث لا تنفذ من غير إجازة الورثة ، ويضمن الشاهد أن للورثة ثلث قيمته ; لأنهما أتلفا عليه بشهادتهما ثلث العبد ، هذا إذا كانت السعاية تخرج من ثلث العبد ، فإن كانت لا تخرج بأن كان معسرا فإنهما يضمنان جميع قيمته مدبرا ، ثم يرجعان على العبد بثلثي قيمته إذا أيسر ولو شهدا أنه قال لعبده : " إن دخلت الدار فأنت حر ، وشهد آخران بالدخول ، ثم رجعوا فالضمان على شهود اليمين ; لأن العتق ثبت بقوله أنت حر ، وإنما الدخول شرط ، والحكم يضاف إلى العتق لا إلى الشرط ، فكان التلف حاصلا بشهادتهما فكان الضمان عليهما ، وكذلك إذا شهدا أنه قال لامرأته : " إن دخلت الدار فأنت طالق " ، وشهد آخران بالدخول ثم رجعوا لما قلنا ، وكذلك لو شهدا على رجل [ ص: 285 ] بالزنا وشهد آخران بالإحصان ثم رجعوا ، فالضمان على شهود الزنا لا على شهود الإحصان ; لأن الإحصان شرط ولو شهدا أنه قتل فلانا خطأ ، وقضى القاضي ثم رجعا ضمنا الدية ; لأنهما أتلفاها عليه وتكون في مالهما ; لأن الشهادة منهما بمنزلة الإقرار منهما بالإتلاف ، والعاقلة لا تعقل الإقرار كما لو أقرا صريحا ، ولهذا لو رجعا في حال المرض اعتبر إقرارا بالدين حتى يقدم عليه دين الصحة كما في سائر الأقارير ، وكذا لو شهدا أنه قطع يد فلان خطأ ، وقضى القاضي ، ثم رجعا ضمنا دية اليد لما قلنا .

                                                                                                                                وكذا لو شهدا عليه بالسرقة فقضى عليه بالقطع فقطعت يده ثم رجعا ، فقد روي أن شاهدين شهدا عند سيدنا علي كرم الله وجهه على رجل بالسرقة فقضى عليه بالقطع فقطعت يده ، ثم جاء الشاهدان بآخر فقالا : " أوهمنا أن السارق هذا يا أمير المؤمنين " فقال سيدنا علي رضي الله عنه : " لا أصدقكما على هذا وأغرمكما دية يد الأول ، ولو علمت أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما ، وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعا ولو شهدا أنه قتل فلانا عمدا فقضى القاضي وقتل ، ثم رجعا فعليهما الدية عندنا ، وعند الشافعي - رحمه الله - عليهما القصاص ، وعلى هذا الخلاف إذا شهدا أنه قطع يد فلان ، ( وجه ) قول الشافعي - رحمه الله - أن شهادتهما وقعت قتلا تسبيبا ; لأنها تفضي إلى وجوب القصاص ، وإنه يفضي إلى القتل فكانت شهادتهما تسبيبا إلى القتل ، والتسبيب في باب القصاص في معنى المباشرة كالإكراه على القتل .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن نسلم أن الشهادة وقعت تسبيبا إلى القتل لكن وجوب القصاص يتعلق بالقتل مباشرة لا تسبيبا ; لأن ضمان العدوان الوارد على حق العبد مقيد بالمثل شرعا ، ولا مماثلة بين القتل مباشرة وبين القتل تسبيبا ، بخلاف الإكراه على القتل ; لأن القاتل هو المكره مباشرة لكن بيد المكره وهو كالآلة ، والفعل لمستعمل الآلة لا للآلة على ما عرف على أن ذلك وإن كان قتلا تسبيبا فهو مخصوص عن نصوص المماثلة فمن ادعى تخصيص الفرع يحتاج إلى الدليل .

                                                                                                                                وعلى هذا يخرج ما إذا شهدا على ولي القتيل أنه عفا عن القتل وقضى القاضي ، ثم رجعا : أنه لا ضمان عليهما في ظاهر الرواية ; ; لأنه لم يوجد منهما إتلاف المال ولا النفس ; لأن شهادتهما قامت على العفو عن القصاص ، والقصاص ليس بمال ، ألا ترى أنه لو أكره رجلا على العفو عن القصاص فعفا لا يضمن المكره ، ولو كان القصاص مالا يضمن ; لأن المكره يضمن بالإكراه على إتلاف المال وكذا من وجب له القصاص وهو مريض فعفا ، ثم مات في مرضه ذلك لا يعتبر من الثلث ولو كان مالا اعتبر من الثلث ، كما إذا تبرع في مرضه ، وعن أبي يوسف - رحمه الله - أنهما يضمنان الدية لولي القتيل ; لأن شهادتهما إتلاف للنفس ; ; لأن نفس القاتل تصير مملوكة لولي القتيل في حق القصاص ، فقد أتلفا بشهادتهما على المولى نفسا تساوي ألف دينار أو عشرة آلاف درهم فيضمنان ، وهذا غير سديد ; لأنا لا نسلم أن نفس القاتل تصير مملوكة لولي القتيل ، بل الثابت له ملك الفعل لا ملك المحل ; لأن في المحل ما ينافي الملك لما علم في مسائل القصاص فلم تقع شهادتهما إتلاف النفس ولا إتلاف المال فلا يضمنان .

                                                                                                                                ولو شهدا أن هذا الغلام ابن هذا الرجل ، والأب يجحده فقضى القاضي بشهادتهما ثم رجعا لا يبطل النسب ، ولا ضمان على الشاهدين لانعدام إتلاف المال منهما .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية