الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 364 ] 567

ثم دخلت سنة سبع وستين وخمسمائة

ذكر إقامة الخطبة العباسية بمصر وانقراض الدولة العلوية

في هذه السنة ، في ثاني جمعة من المحرم ، قطعت خطبة العاضد لدين الله أبي محمد الإمام عبد الله بن يوسف بن الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد بن أبي القاسم محمد بن المستنصر بالله أبي تميم معد بن الظاهر لإعزاز دين الله أبي الحسن علي بن الحاكم بأمر الله أبي علي المنصور بن العزيز بالله أبي منصور بن نزار بن المعز لدين الله أبي تميم معد بن المنصور بالله أبي الظاهر إسماعيل بن القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن المهدي بالله أبي محمد عبيد الله ، وهو أول العلويين من هذا البيت الذين خطب لهم بالخلافة ، وخوطبوا بإمرة المؤمنين .

وكان سبب الخطبة العباسية بمصر أن صلاح الدين يوسف بن أيوب لما ثبت قدمه بمصر وزال المخالفون له ، وضعف أمر الخليفة بها العاضد ، وصار قصره يحكم فيه صلاح الدين ونائبه قراقوش ، وهو خصي ، كان من أعيان الأمراء الأسدية ، كلهم يرجعون إليه ، فكتب إليه نور الدين محمود بن زنكي يأمره بقطع الخطبة العاضدية وإقامة الخطبة المستضيئية ، فامتنع صلاح الدين ، واعتذر بالخوف من قيام أهل الديار المصرية عليه لميلهم إلى العلويين .

[ ص: 365 ] وكان صلاح الدين يكره قطع الخطبة لهم ، ويريد بقاءهم خوفا من نور الدين ، فإنه كان يخافه أن يدخل إلى الديار المصرية يأخذها منه ، فكان يريد [ أن ] يكون العاضد معه ، حتى إذا قصده نور الدين امتنع به وبأهل مصر عليه ، فلما اعتذر إلى نور الدين بذلك لم يقبل عذره ، وألح عليه بقطع خطبته ، وألزمه إلزاما لا فسحة له في مخالفته ، وكان على الحقيقة نائب نور الدين ، واتفق أن العاضد مرض هذا الوقت مرضا شديدا ، فلما عزم صلاح الدين على قطع خطبته استشار أمراءه ، فمنهم من أشار به ولم يفكر في المصريين ، ومنهم من خافهم إلا أنه ما يمكنه إلا امتثال أمر نور الدين .

وكان قد دخل إلى مصر إنسان أعجمي يعرف بالأمير العالم ، رأيته أنا بالموصل ، فلما رأى ما هم فيه من الإحجام ، وأن أحدا لا يتجاسر [ أن ] يخطب للعباسيين قال : أنا أبتدئ بالخطبة لهم ، فلما كان أول جمعة من المحرم صعد المنبر قبل الخطيب ، ودعا للمستضيء بأمر الله ، فلم ينكر أحد ذلك ، فلما كان الجمعة الثانية أمر صلاح الدين الخطباء بمصر والقاهرة أن يقطعوا خطبة العاضد ويخطبوا للمستضيء ، ففعلوا ذلك فلم ينتطح فيها عنزان ، وكتب بذلك إلى سائر بلاد مصر ، ففعل ، وكان العاضد قد اشتد مرضه فلم يعلمه أحد من أهله وأصحابه بقطع الخطبة ، وقالوا : إن عوفي فهو يعلم ، وإن توفي فلا ينبغي أن نفجعه بمثل هذه الحادثة قبل موته ، فتوفي يوم عاشوراء ولم يعلم بقطع الخطبة .

ولما توفي جلس صلاح الدين للعزاء ، واستولى على قصر الخلافة ، وعلى جميع ما فيه ، فحفظه بهاء الدين قراقوش الذي كان قد رتبه قبل موت العاضد ، فحمل الجميع إلى صلاح الدين ، وكان من كثرته يخرج عن الإحصاء ، وفيه من الأعلاق النفيسة والأشياء الغريبة ما تخلو الدنيا عن مثله ، ومن الجواهر التي لم توجد عند أحد غيرهم ، فمنه الجبل الياقوت ، وزنه سبعة عشر درهما ، أو سبعة عشر مثقالا ، أنا لا أشك ، لأنني رأيته ووزنته ، واللؤلؤ الذي لم يوجد مثله ، ومنه النصاب الزمرد الذي طوله أربع أصابع في عرض عقد كبير ، ووجد فيه طبل كان بالقرب من موضع العاضد ، وقد احتاطوا عليه بالحفظ ، فلما رأوه ظنوه عمل لأجل اللعب به ، فسخروا [ ص: 366 ] من العاضد ، فأخذه إنسان ، فضرب به ، فضرط ، فتضاحكوا منه ، ثم آخر كذلك ، وكان كل من ضرب به ضرط ، فألقاه أحدهم ، فكسره ، فإذا الطبل لأجل قولنج ، فندموا على كسره لما قيل لهم ذلك .

وكان فيه من الكتب النفيسة المعدومة المثل ما لا يعد ، فباع جميع ما فيه ، ونقل أهل العاضد إلى موضع من القصر ، ووكل بهم من يحفظهم ، وأخرج جميع من فيه من أمة وعبد ، فباع البعض ، وأعتق البعض ، ووهب البعض ، وخلى القصر من سكانه كأن لم يغن بالأمس ، فسبحان الحي الدائم الذي لا يزول ملكه ، ولا تغيره الدهور ولا يقرب النقص حماه .

ولما اشتد مرض العاضد أرسل إلى صلاح الدين يستدعيه ، فظن ذلك خديعة ، فلم يمض إليه ، فلما توفي علم صدقه ، فندم على تخلفه عنه ، وكان يصفه كثيرا بالكرم ، ولين الجانب ، وغلبة الخير على طبعه ، وانقياده ، وكان في نسبه تسعة خطب لهم بالخلافة وهم : الحافظ ، والمستنصر ، والظاهر ، والحاكم ، والعزيز ، والمعز ، والمنصور ، والقائم ، والمهدي ، ومنهم من لم يخطب له بالخلافة : أبوه يوسف بن الحافظ ، وجد أبيه ، وهو الأمير أبو القاسم محمد بن المستنصر .

وبقي من خطب له بالخلافة وليس من آبائه : المستعلي ، والآمر ، والظافر ، والفائز .

وجميع من خطب له منهم بالخلافة أربعة عشر خليفة منهم بإفريقية : المهدي ، والقائم ، والمنصور ، والمعز ، إلى أن سار إلى مصر ، ومنهم بمصر : المعز المذكور ، وهو أول من خرج إليها من إفريقية ، والعزيز ، والحاكم ، والظاهر ، والمستنصر ، والمستعلي ، والآمر ، والحافظ ، والظافر ، والفائز ، والعاضد ، وجميع مدة ملكهم من حين ظهر المهدي بسجلماسة في ذي الحجة من سنة تسع وتسعين ومائتين إلى أن توفي العاضد مائتان واثنتان وسبعون سنة وشهرا تقريبا .

وهذا دأب الدنيا لم تعط إلا واستردت ، ولم تحل إلا وتمررت ، ولم تصف إلا وتكدرت ، بل صفوها لا يخلو من الكدر ، وكدرها قد يخلو من الصفو ، نسأل الله تعالى [ ص: 367 ] أن يقبل بقلوبنا إليه ، ويرينا الدنيا حقيقة ، ويزهدنا فيها ، ويرغبنا في الآخرة ، إنه سميع الدعاء قريب من الإجابة .

ولما وصلت البشارة إلى بغداد بذلك ضربت البشائر بها عدة أيام ، وزينت بغداد وظهر من الفرح والجذل ما لا حد عليه ، وسيرت الخلع مع عماد الدين صندل ، وهو من خواص الخدم المقتفوية والمقدمين في الدولة لنور الدين وصلاح الدين ، فسار صندل إلى نور الدين وألبسه الخلعة ، وسير الخلعة التي لصلاح الدين وللخطباء بالديار المصرية ، والأعلام السود ، ثم إن صندلا هذا صار أستاذ دار الخليفة المستضيء بأمر الله ببغداد ، وكان يدري الفقه على مذهب الشافعي ، وسمع الحديث ورواه ، ويعرف أشياء حسنة ، وفيه دين ، وله معروف كثير ، وهو من محاسن بغداد .

التالي السابق


الخدمات العلمية