الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال : الدرجة الثانية : الرضا عن الله . وبهذا نطقت آيات التنزيل . وهو الرضا عنه في كل ما قضى وقدر . وهذا من أوائل مسالك أهل الخصوص .

الشيخ جعل هذه الدرجة أعلى من الدرجة التي قبلها .

ووجه قوله : أنه لا يدخل في الإسلام إلا بالدرجة الأولى . فإذا استقر قدمه عليها دخل في مقام الإسلام .

وأما هذه الدرجة : فمن معاملات القلوب . وهي لأهل الخصوص . وهي الرضا عنه في أحكامه وأقضيته .

وإنما كان من أول مسالك أهل الخصوص لأنه مقدمة للخروج عن النفس ، والذي هو طريق أهل الخصوص ، فمقدمته بداية سلوكهم . لأنه يتضمن خروج العبد عن حظوظه ، ووقوفه مع مراد الله عز وجل . لا مع مراد نفسه .

هذا تقرير كلامه . وفي جعله هذه الدرجة أعلى من التي قبلها نظر لا يخفى ، وهو نظير جعله الصبر بالله أعلى من الصبر لله .

والذي ينبغي : أن تكون الدرجة الأولى أعلى شأنا وأرفع قدرا . فإنها مختصة وهذه [ ص: 181 ] الدرجة مشتركة . فإن الرضا بالقضاء يصح من المؤمن والكافر . وغايته التسليم لقضاء الله وقدره . فأين هذا من الرضا به ربا وإلها ومعبودا ؟

وأيضا فالرضا به ربا فرض . بل هو من آكد الفروض باتفاق الأمة . فمن لم يرض به ربا ، لم يصح له إسلام ولا عمل ولا حال .

وأما الرضا بقضائه : فأكثر الناس على أنه مستحب . وليس بواجب . وقيل : بل هو واجب ، وهما قولان في مذهب أحمد .

فالفرق بين الدرجتين فرق ما بين الفرض والندب . وفي الحديث الإلهي الصحيح يقول الله عز وجل : ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه فدل على أن التقرب إليه سبحانه بأداء فرائضه أفضل وأعلى من التقرب إليه بالنوافل .

وأيضا : فإن الرضا به ربا يتضمن الرضا عنه ، ويستلزمه . فإن الرضا بربوبيته : هو رضا العبد بما يأمره به ، وينهاه عنه ، ويقسمه له ويقدره عليه ، ويعطيه إياه ، ويمنعه منه . فمتى لم يرض بذلك كله لم يكن قد رضي به ربا من جميع الوجوه . وإن كان راضيا به ربا من بعضها . فالرضا به ربا من كل وجه : يستلزم الرضا عنه ، ويتضمنه بلا ريب .

وأيضا : فالرضا به ربا متعلق بذاته ، وصفاته وأسمائه ، وربوبيته العامة والخاصة ، فهو الرضا به خالقا ومدبرا ، وآمرا وناهيا ، وملكا ، ومعطيا ومانعا ، وحكما ، ووكيلا ووليا ، وناصرا ومعينا ، وكافيا وحسيبا ورقيبا ، ومبتليا ومعافيا ، وقابضا وباسطا ، إلى غير ذلك من صفات ربوبيته .

وأما الرضا عنه : فهو رضا العبد بما يفعله به ، ويعطيه إياه ، ولهذا لم يجئ إلا في الثواب والجزاء . كقوله تعالى : ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فهذا برضاها عنه لما حصل لها من كرامته . كقوله تعالى : خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه .

والرضا به : أصل الرضا عنه ، والرضا عنه : ثمرة الرضا به .

وسر المسألة : أن الرضا به متعلق بأسمائه وصفاته . والرضا عنه : متعلق بثوابه وجزائه .

[ ص: 182 ] وأيضا : فإن النبي صلى الله عليه وسلم علق ذوق طعم الإيمان بمن رضي بالله ربا . ولم يعلقه بمن رضي عنه ، كما قال صلى الله عليه وسلم ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا . . فجعل الرضا به قرين الرضا بدينه ونبيه . وهذه الثلاثة هي أصول الإسلام ، التي لا يقوم إلا بها وعليها .

وأيضا : فالرضا به ربا يتضمن توحيده وعبادته ، والإنابة إليه ، والتوكل عليه ، وخوفه ورجاءه ومحبته ، والصبر له وبه . والشكر على نعمه : يتضمن رؤية كل ما منه نعمة وإحسانا ، وإن ساء عبده . فالرضا به يتضمن شهادة أن لا إله إلا الله والرضا بمحمد رسولا يتضمن شهادة أن محمدا رسول الله والرضا بالإسلام دينا : يتضمن التزام عبوديته ، وطاعته وطاعة رسوله . فجمعت هذه الثلاثة الدين كله .

وأيضا : فالرضا به ربا يتضمن اتخاذه معبودا دون ما سواه . واتخاذه وليا ومعبودا ، وإبطال عبادة كل ما سواه . وقد قال تعالى لرسوله أفغير الله أبتغي حكما وقال أغير الله أتخذ وليا وقال قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء . فهذا هو عين الرضا به ربا .

وأيضا : فإنه جعل حقيقة الرضا به ربا : أن يسخط عبادة ما دونه . فمتى سخط العبد عبادة ما سوى الله من الآلهة الباطلة ، حبا وخوفا ، ورجاء وتعظيما ، وإجلالا - فقد تحقق بالرضا به ربا ، الذي هو قطب رحى الإسلام .

وإنما كان قطب رحى الدين لأن جميع العقائد والأعمال ، والأحوال : إنما تنبني على توحيد الله عز وجل في العبادة ، وسخط عبادة ما سواه . فمن لم يكن له هذا القطب لم يكن له رحى تدور عليه . ومن حصل له هذا القطب ثبتت له الرحى . ودارت على ذلك القطب . فيخرج حينئذ من دائرة الشرك إلى دائرة الإسلام . فتدور رحى إسلامه وإيمانه على قطبها الثابت اللازم .

وأيضا : فإنه جعل حصول هذه الدرجة من الرضا موقوفا على كون المرضي به ربا - سبحانه - أحب إلى العبد من كل شيء ، وأولى الأشياء بالتعظيم ، وأحق الأشياء بالطاعة ، ومعلوم أن هذا يجمع قواعد العبودية ، وينظم فروعها وشعبها .

[ ص: 183 ] ولما كانت المحبة التامة ميل القلب بكليته إلى المحبوب : كان ذلك الميل حاملا على طاعته وتعظيمه . وكلما كان الميل أقوى : كانت الطاعة أتم ، والتعظيم أوفر . وهذا الميل يلازم الإيمان ، بل هو روح الإيمان ولبه . فأي شيء يكون أعلى من أمر يتضمن أن يكون الله سبحانه أحب الأشياء إلى العبد ، وأولى الأشياء بالتعظيم ، وأحق الأشياء بالطاعة ؟

وبهذا يجد العبد حلاوة الإيمان . كما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما . ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله . ومن كان يكره أن يرجع إلى الكفر - بعد إذ أنقذه الله منه - كما يكره أن يلقى في النار .

فعلق ذوق الإيمان بالرضا بالله ربا . وعلق وجود حلاوته بما هو موقوف عليه . ولا يتم إلا به ، وهو كونه سبحانه أحب الأشياء إلى العبد هو ورسوله .

ولما كان هذا الحب التام ، والإخلاص - الذي هو ثمرته - أعلى من مجرد الرضا بربوبيته سبحانه : كانت ثمرته أعلى . وهو وجد حلاوة الإيمان . وثمرة الرضا : ذوق طعم الإيمان . فهذا وجد حلاوة ، وذلك ذوق طعم . والله المستعان .

وإنما ترتب هذا وهذا على الرضا به وحده ربا ، والبراءة من عبودية ما سواه ، وميل القلب بكليته إليه ، وانجذاب قوى المحب كلها إليه . ورضاه عن ربه تابع لهذا الرضا به . فمن رضي بالله ربا رضيه الله له عبدا . ومن رضي عنه في عطائه ومنعه وبلائه وعافيته : لم ينل بذلك درجة رضا الرب عنه ، إن لم يرض به ربا ، وبنبيه رسولا ، وبالإسلام دينا ، فإن العبد قد يرضى عن الله ربه فيما أعطاه وفيما منعه ، ولكن لا يرضى به وحده معبودا وإلها . ولهذا إنما ضمن رضا العبد يوم القيامة لمن رضي به ربا . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من قال كل يوم : رضيت بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا : إلا كان حقا على الله أن يرضيه يوم القيامة .

التالي السابق


الخدمات العلمية