الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الثامن والأربعون بين قاعدة التخيير الذي يقتضي التسوية وبين قاعدة التخيير الذي لا يقتضي التسوية بين الأشياء المخير بينها )

جمهور الفقهاء يعتقدون أن صاحب الشرع أو غيره إذا خير بين أشياء يكون حكم تلك الأشياء واحدا وأن لا يقع التخيير إلا بين واجب وواجب أو مندوب ومندوب أو مباح ومباح وكذلك هو مسطور في كتب أصول الفقه وكتب الفقه وليس الأمر كذلك بل هنالك تخيير يقتضي التسوية وتخيير لا يقتضيها وتحرير الفرق بين القاعدتين أن التخيير متى وقع بين الأشياء المتباينة وقعت التسوية أو بين الجزء والكل أو أقل أو أكثر لم تقع التسوية ويتضح لك هذا الفرق بذكر أربع مسائل .

( المسألة الأولى ) تخييره تعالى بين خصال الكفارة في الحنث اقتضى ذلك التسوية في الحكم وهو الوجوب في المشترك بينها وهو مفهوم أحدها والتخيير في الخصوصيات وهو العتق والكسوة والإطعام فالمشترك متعلق الوجوب من غير تخيير والخصوصيات متعلق التخيير من غير إيجاب وعلى كل [ ص: 9 ] تقدير فحكم كل خصلة من الخصال حكم الخصلة الأخرى ؛ لأنها أمور متباينة .

( المسألة الثانية ) قوله تعالى { يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا } قال بعض العلماء خيره الله تعالى بين الثلث والنصف والثلثين ؛ لأن قوله تعالى { أو انقص منه قليلا } أي انقص من النصف والمراد الثلث أو زد عليه أي على النصف ، والمراد بالزيادة على النصف السدس فيكون المراد الثلثين كذا وقع في تفسير هذه الآية وهذا تخيير وقع بين ثلاثة أشياء كخصال الكفارة ومع ذلك فالثلث واجب لا بد منه والنصف والثلثان مندوبان يجوز تركها وفعلهما أولى فقد وقع التخيير بين الواجب والمندوب بسبب أن التخيير وقع بين أقل وأكثر والأقل جزء فهذا مفارق للتخيير بين خصال الكفارة فتأمله فهو لا يكاد يخطر بالبال إلا أن التخيير يقتضي التسوية مطلقا .

( المسألة الثالثة ) قوله تعالى { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } الآية خير الله تعالى المسافر بين ركعتين أو أربع والركعتان واجبتان جزما والزائد ليس بواجب ؛ لأنه يجوز تركه وما يجوز تركه لا يكون واجبا وأما الركعتان [ ص: 10 ] فلا يجوز تركهما إجماعا فقد وقع التخيير بين الواجب وما ليس بواجب وهذا خلاف المتعارف المعهود من القاعدة وسببه أن التخيير وقع بين جزء وكل لا بين أشياء متباينة .

( المسألة الرابعة ) أجمعت الأمة على أن صاحب الدين على المعسر مخير بين النظرة والإبراء وأن الإبراء أفضل في حقه وأحدهما واجب حتما وهو ترك المطالبة والإبراء ليس بواجب والسبب في هذا أن الإبراء يتضمن النظرة وترك المطالبة فصار من باب الأقل والأكثر وهذه المسألة مستثناة من قاعدتين إحداهما قاعدة التخيير كما تقدم والثانية قاعدة أن الواجب أفضل من المندوب فإن المندوب في هذه الصورة وهو الإبراء [ ص: 11 ] أفضل من الواجب الذي هو الإنظار فتحرر حينئذ الفرق بين القاعدتين وأن التخيير إذا وقع بين المتباينات اقتضى التسوية بين الأقل والأكثر والجزء والكل لا يقتضي التسوية بل يتحتم الأقل والجزء دون الزائد عليه .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال ( الفرق الثامن والأربعون بين قاعدة التخيير الذي يقتضي التسوية بين الأشياء المخير فيها وبين قاعدة التخيير الذي لا يقتضي التسوية إلى قوله وتخيير لا يقتضيه ) قلت الصحيح ما اعتقده جمهور الفقهاء وسطر في كتب الفقه وأصوله دون ما اختاره هو وارتضاه .

قال ( وتحرير الفرق بين القاعدتين إلى قوله بذكر أربع مسائل ) قلت : ما قاله هنا مجرد دعوى .

قال ( المسألة الأولى تخييره تعالى بين خصال الكفارة في الحنث اقتضى ذلك التسوية في الحكم وهو الوجوب في المشترك بينها وهو مفهوم أحدها ) قلت : قد سبق ما فيه .

قال ( والتخيير في الخصوصيات وهو العتق والكسوة والإطعام ) قلت : ذلك صحيح .

قال ( فالمشترك متعلق الوجوب من غير تخيير ) قلت : لو كان المشترك متعلق الوجوب لوجب الجميع بل متعلق الوجوب واحد غير معين .

قال ( والخصوصيات متعلق التخيير من غير إيجاب وعلى كل [ ص: 9 ] تقدير فحكم كل خصلة من الخصال حكم الخصلة الأخرى ) ؛ لأنها أمور متباينة قلت : ما قاله من أن الخصوصيات متعلق التخيير وأن حكم كل خصلة حكم الأخرى صحيح لا ما قاله من أن ذلك لكونها أمورا متباينة .

قال ( المسألة الثانية ) قوله تعالى { يا أيها المزمل } إلى قوله ومع ذلك فالثلث واجب لا بد منه والنصف والثلثان مندوبان يجوز تركهما وفعلهما أولى قلت : ليس الثلث واجبا من حيث هو ثلث ولو كان ذلك لكان واجبا معينا وليس النصف والثلثان مندوبين ، ولو كان ذلك لجاز تركهما مطلقا وليس كذلك بل لا يجوز تركهما إلا عند قيام الثلث .

قال ( فقد وقع التخيير بين الواجب والمندوب بسبب أن التخيير وقع بين أقل وأكثر ) قلت : لم يقع التخيير بين الواجب والمندوب وليس كون التخيير وقع بين أقل وأكثر سببا في ذلك .

قال ( فهذا مفارق للتخيير بين خصال الكفارة ) قلت : ليس مفارقا للتخيير بين خصال الكفارة بل هما سواء إلا عند من اعتراه الغلط فتوهم أن الجزء المنفرد المنفصل هو الجزء المجتمع المتصل .

قال ( فتأمله فهو لا يكاد يخطر بالبال إلا أن التخيير يقتضي التسوية مطلقا ) قلت : يحق أن لا يخطر غير ذلك بالبال فإنه الأمر الذي لا ريب فيه .

قال ( المسألة الثالثة ) قوله تعالى { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } الآية خير الله تعالى المسافر بين ركعتين أو أربع والركعتان واجبتان جزما والزائد ليس بواجب ؛ لأنه يجوز تركه وما يجوز تركه لا يكون واجبا وأما الركعتان [ ص: 10 ] فلا يجوز تركهما إجماعا قلت : ما قاله من أن الركعتين واجبتان جزما ليس بصحيح كيف وله تركهما وإبدالهما بأربع وما قاله من أن الزائد يجوز تركه وما يجوز تركه لا يكون واجبا ليس بصحيح أيضا فإن ما ليس بواجب يجوز تركه مطلقا وهذا لا يجوز تركه مطلقا بل يجوز عند فعل بدله وما قاله من أن الركعتين لا يجوز تركهما إجماعا ليس بصحيح بل يجوز تركهما عند فعل بدلهما وهو الأربع وإنما أوجب غلطه توهمه أن الركعتين المنفردتين هما المجتمعتان مع الركعتين الأخريين من الأربع .

قال ( فقد وقع التخيير بين الواجب وما ليس بواجب وهذا خلاف المتعارف المعهود من القاعدة ) قلت : لم يقع التخيير بين واجب وغير واجب فيحق أن يكون ما ادعاه وتوهمه خلاف المتعارف من القاعدة .

قال ( وسببه أن التخيير قد وقع بين جزء وكل لا بين أشياء متباينة ) قلت : ليس وقوع التخيير بين جزء وكل سببا فيما ذكر وقد سبق القول في مثل ذلك .

قال ( المسألة الرابعة ) اجتمعت الأمة على أن صاحب الدين على المعسر مخير بين النظرة والإبراء وأن الإبراء أفضل في حقه قلت : ما قاله ليس بصحيح ولا أجمعت الأمة على التخيير هنا بوجه أصلا بل النظرة للمعسر متعين وجوبها بنص الكتاب العزيز . قال تعالى { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } ولكنه لما كان لرب الدين إبراء غريمه منه وإسقاطه موسرا كان أو معسرا عنه توهم أنه مخير بين الأمرين في حق المعسر وليس الأمر كذلك ولو كان كذلك لكان تسويغ الإبراء من الدين مختصا بالمعسر .

قال ( وأحدهما واجب حتما وهو ترك المطالبة ) قلت : ذلك صحيح وهو معنى النظرة ولكن لا يلزم منه مقصوده .

قال ( فصار من باب الأقل والأكثر ) قلت : ليس من باب الأقل والأكثر ولكنه من باب الأخذ عند الميسرة أو الترك جملة ، ولا يقال في مثل هذا : إنه أقل أو أكثر إلا بنوع من المجاز .

قال ( وهذه المسألة مستثناة من قاعدتين إحداهما قاعدة التخيير كما تقدم والثانية قاعدة أن الواجب أفضل من المندوب فإن المندوب في هذه الصورة وهو الإبراء [ ص: 11 ] أفضل من الواجب الذي هو الإنظار ) قلت : قد تقدم أن هذه المسألة ليست من قاعدة التخيير وما قاله من أن المندوب في هذه الصورة أفضل من الواجب لم يأت عليه بحجة ولعل الأمر في ذلك على خلاف ما زعم وغايته أو غاية من يحتج لقوله ذلك أن يقول النظرة إراحة للغريم من مؤنة الدين ما بينه وبين الميسرة ، والإبراء إراحة للغريم من مؤنة الدين بالكلية ولا شك أن الإراحة الكلية أعظم قدرا من الإراحة غير الكلية فتكون أعظم أجرا وما يحتج به المحتج من ذلك صحيح غير أن هذا المقام قاعدة ، وهو أن المعتبر في تفاضل الأعمال المتحدة تفاضل أحوال عامليها أولا ثم تفاضل الأعمال أنفسها ثانيا ثم تفاضل أحوال المنتفع بها إن كانت متعدية النفع ثالثا .

والدليل على صحة هذا الترتيب قوله صلى الله عليه وسلم { سبق درهم مائة ألف درهم } . فلو كان المعتبر أولا تفاضل أحوال المنتفع لسبقت مائة الألف الدرهم ؛ لأنها أعظم نفعا بالمشاهدة وإذا ثبت أن المعتبر أولا حال العامل فلا ريب أن تحمل وظيفة الإنظار التي حمل عليها واضطر بإيجابها عليه إليها أشق عليه من وظيفة الإبراء الموكولة إلى اختياره ، وهذا المعنى والله أعلم هو السبب الأعظم في أفضلية الفرائض على غيرها وعلى هذا لا تنخرم قاعدة أفضلية الواجبات على المندوبات وما قال من كون التخيير الواقع بين المتباينات يوجب التسوية وبين الأقل والأكثر إلى آخره قد تبين بطلانه



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الثامن والأربعون بين قاعدة التخيير الذي يقتضي التسوية وبين قاعدة التخيير الذي لا يقتضي التسوية بين الأشياء المخير بينها ) على ما اختاره الأصل وارتضاه من تحقق هاتين القاعدتين خلافا لما هو مسطور في كتب الفقه وأصوله واعتقده جمهور الفقهاء من أن صاحب الشرع أو غيره إذا خير بين أشياء يكون حكم تلك الأشياء واحدا وأنه لا يقع التخيير إلا بين واجب وواجب أو مندوب ومندوب أو مباح ومباح . قال : وتحرير الفرق بينهما أن التخيير متى وقع بين الأشياء المتباينة كما في تخييره تعالى بين خصال الكفارة في الحنث اقتضى ذلك التسوية في الحكم وهو الوجوب في المشترك الذي هو مفهوم أحدها والتخيير في الخصوصيات التي هي العتق والكسوة والإطعام ؛ لأنها أمور متباينة فالمشترك متعلق الوجوب من غير تخيير والخصوصيات متعلق التخيير من غير إيجاب ومتى وقع أي التخيير بين الجزء والكل كما في قوله تعالى { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } الآية فإن التخيير فيها وقع بين جزء وهما ركعتان وكل وهي أربع ركعات أو بين الأقل والأكثر كما في قوله تعالى { يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا } فإن التخيير فيها وقع بين الأقل والأكثر قال بعض العلماء خيره الله تعالى بين [ ص: 10 ] الثلث والنصف والثلثين ؛ لأن قوله تعالى { أو انقص منه قليلا } أي انقص من النصف .

والمراد الثلث أو زد عليه أي على النصف السدس فيكون المراد الثلثين وكما في التخيير الذي أجمعت الأمة عليه لصاحب الدين على المعسر بين النظرة والإبراء فإن الإبراء لما كان يتضمن النظرة وترك المطالبة صار التخيير بينه وبين النظرة من باب التخيير بين الأقل والأكثر اقتضى ذلك عدم التسوية في الحكم ، ألا ترى أن الله تعالى خير المسافر في الآية الأولى بين ركعتين وهما واجبتان جزما ؛ لأنه لا يجوز تركهما إجماعا وبين الزائد عليهما وهو ليس بواجب ؛ لأنه يجوز تركه وما يجوز تركه لا يكون واجبا فوقع التخيير بين الواجب وما ليس بواجب على خلاف المتعارف المعهود من قاعدة أن التخيير يقتضي التسوية مطلقا ؛ لأنه بين جزء وكل لا بين أشياء متباينة وأن الله تعالى خيره صلى الله عليه وسلم في الآية الثانية بين الثلث وهو واجب لا بد منه وبين النصف والثلثين وهما مندوبان يجوز تركهما وفعلهما أولى فوقع التخيير بين الواجب والمندوب على خلاف القاعدة المذكورة ؛ لأنه بين أقل وأكثر والأقل جزء ، وأن إجماع الأمة وقع بتخيير صاحب الدين على المعسر بين النظرة أي ترك المطالبة وهو واجب حتما وبين الإبراء المتضمن للنظرة وترك المطالبة وهو ليس بواجب إلا أنه أفضل في حقه على خلاف قاعدتين إحداهما :

قاعدة التخيير كما تقدم والثانية قاعدة أن الواجب أفضل من المندوب ؛ لأنه تخيير فيما هو باب الأقل والأكثر كما علمت ا هـ ، وقال العلامة ابن الشاط : والصحيح ما اعتقده جمهور الفقهاء وسطر في كتب الفقه وأصوله دون ما اختاره القرافي وارتضاه وما قاله من كون التخيير الواقع بين المتباينات يوجب التسوية وبين الأقل والأكثر والجزء والكل لا يوجبها باطل .

أما أولا فلأن خصوصيات الكفارة وإن صح أنها متعلق التخيير وأن حكم كل خصلة منها حكم الأخرى لم يصح ما قاله من أن ذلك لكونها أمورا متباينة ولا ما قاله من أن المشترك متعلق الوجوب وإلا لوجب الجميع بل إنما صح كون متعلق التخيير الخصوصيات وأن حكم إلخ ؛ لأن متعلق الوجوب واحد غير معين وهو مفهوم أحد الخصال كما علمت وأما ثانيا فلأنه لا يصح ما قاله من وجوب الركعتين جزما على [ ص: 11 ] المسافر لأنه يجوز تركهما إجماعا كيف والمسافر يجوز له تركهما وإبدالها بالأربع والذي أوجب غلطه توهمه أن الركعتين المنفردتين هما المجتمعتان مع الركعتين الأخريين من الأربع ولا ما قاله من أن الزائد يجوز تركه وما يجوز تركه لا يكون واجبا فإن ما ليس بواجب يجوز تركه مطلقا والزائد لا يجوز تركه مطلقا بل عند فعل بدله فلم يقع التخيير بين واجب وغير واجب ولم يكن سببه وقوع التخيير بين جزء وكل فما ادعاه وتوهمه خلاف المتعارف من القاعدة .

وأما ثالثا فلأن الثلث ليس بواجب من حيث هو ثلث وإلا لكان واجبا معينا ، ولا يجوز ترك النصف والثلثين مطلقا حتى يكونا مندوبين بل عند قيام الثلث فلم يقع التخيير بين الواجب والمندوب ولا سببه وقوع التخيير بين أقل وأكثر بل التخيير هنا مساو للتخيير بين خصال الكفارة لا مفارق له إلا عند من اعتراه الغلط فتوهم أن الجزء المنفرد المنفصل هو الجزء المجتمع المتصل ، وأما رابعا فلأن الأمة لم تجمع على التخيير بين النظرة للمعسر وإبرائه بل النظرة له متعين وجوبها بنص الكتاب العزيز قال تعالى { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } ولكنه لما كان لرب الدين إبراء غريمه منه وإسقاطه موسرا كان أو معسرا عنه توهم أنه مخير بين الأمرين في حق المعسر وليس كذلك وإلا لاختص تسويغ الإبراء من الدين بالمعسر واللازم باطل فكذا الملزوم على أنه ليس التخيير في هذه المسألة لا من باب الأخذ عند الميسرة أو الترك جملة ولا يقال في مثل هذا أنه أقل أو أكثر إلا بنوع من المجاز .

فهذه المسألة ليست من قاعدة التخيير أصلا وما زعمه من أن المندوب فيها أفضل من الواجب وإن أمكن توجيهه بأن النظرة إراحة للغريم من مؤنة الدين ما بينه وبين الميسرة والإبراء إراحة للغريم من مؤنة الدين بالكلية ولا شك أن الإراحة الكلية أعظم قدرا من الإراحة غير الكلية فتكون أعظم أجرا ، إلا أن القاعدة هنا أن المعتبر في تفاضل الأعمال المتحدة تفاضل أحوال عامليها أولا ثم تفاضل الأعمال أنفسها ثانيا ثم تفاضل أحوال المنتفع بها إن كانت متعدية النفع ثالثا ، ودليل صحة هذا الترتيب قوله صلى الله تعالى عليه وسلم { سبق درهم مائة ألف درهم } فلو كان المعتبر أولا تفاضل أحوال المنتفع لسبقت مائة الألف الدرهم ؛ لأنها أعظم نفعا بالمشاهدة وإذا ثبت أن المعتبر أولا حال [ ص: 12 ] العامل فلا ريب أن تحمل وظيفة الإنظار التي حمل عليها بإيجابها عليه إليها أشق عليه من وظيفة الإبراء الموكولة إلى اختياره وهذا المعنى والله أعلم هو السبب الأعظم في أفضلية الفرائض على غيرها فلم تنخرم قاعدة أفضلية الواجبات على المندوبات ا هـ . قلت : وعلى ما قاله ابن الشاط فالصواب إبدال هذا الفرق بالفرق بين قاعدة المباح بالجزء المطلوب الفعل بالكل وبين قاعدة المباح بالجزء المطلوب الترك بالكل بمعنى أن المداومة عليه منهي عنها .

قال العلامة أبو إسحاق في موافقاته : اعلم أن المباح باعتباره في نفسه لا بالأمور الخارجة عنه هو المسمى بالمباح بالجزء وباعتباره بالأمور الخارجة عنه هو المسمى بالمطلوب بالكل والأول يطلق بإطلاقين الأول من حيث هو مخير فيه بين الفعل والترك والآخر من حيث يقال لا حرج فيه ، والثاني على أربعة أقسام : أحدها : أن يكون خادما لأمر مطلوب الفعل ، والثاني : أن يكون خادما لأمر مطلوب الترك ، والثالث : أن يكون خادما لمخير فيه ، والرابع : أن لا يكون فيه شيء من ذلك .

فأما الأول فهو المباح بالجزء باعتباره في نفسه المطلوب الفعل بالكل باعتبار ما هو خادم له ، وأما الثاني فهو المباح بالجزء المطلوب الترك بالكل بالاعتبارين المذكورين بمعنى أن المداومة عليه منهي عنها ، وأما الثالث والرابع فراجعان إلى هذا القسم الثاني وذلك أن المباح إن كان خادما يعتبر بما يكون خادما له والخدمة إن كانت في طرق الترك كترك الدوام على التنزه في البساتين وسماع تغريد الحمام والغناء المباح كان ترك الدوام فيه هو المطلوب من حيث هو خادم لما يضاد الضروريات وهو الفراغ من الاشتغال بها وإن كانت في طرف الفعل كالاستمتاع بالحلال من الطيبات كان الدوام فيه بحسب الإمكان من غير سرف هو المطلوب من حيث هو خادم المطلوب وهو أصل الضروريات والخادم للمخير فيه على حكمه ؛ لأنه خادم له فصار مطلوب الترك أيضا ؛ لأنه صار خادما لقطع الزمان في غير مصلحة دين ولا دنيا فهو إذا خادم المطلوب الترك فصار مطلوب الترك بالكل . وأما الرابع فلما كان غير خادم لشيء يعتد به كان عبثا أو كالعبث عند العقلاء فصار مطلوب الترك أيضا ؛ لأنه صار خادما لقطع الزمان في غير مصلحة دين ولا دنيا فهو إذا خادم المطلوب الترك فصار مطلوب الترك بالكل وتلخص أن كل مباح [ ص: 13 ] ليس بمباح بإطلاق وإنما هو مباح بالجزء خاصة وأما بالكل فهو إما مطلوب الفعل أو مطلوب الترك مثلا هذا الثوب الحسن مباح اللبس قد استوى في نظر الشرع فعله وتركه فلا قصد له في أحد الأمرين ، وهذا معقول واقع بهذا الاعتبار المقتصر به على ذات المباح من حيث هو كذلك وهو من جهة ما هو وقاية للحر والبرد وموار للسوأة وجمال في النظر مطلوب الفعل ، وهذا النظر غير مختص بهذا الثوب المعين ولا بهذا الوقت المعين فهو نظر بالكل لا بالجزء ا هـ بتغيير وتوضيح للمراد والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية