الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما الإحصان ، فالإحصان نوعان : إحصان الرجم ، وإحصان القذف أما إحصان الرجم فهو عبارة - في الشرع - عن اجتماع صفات اعتبرها الشرع لوجوب الرجم ، وهي سبعة : العقل والبلوغ والحرية والإسلام والنكاح الصحيح وكون الزوجين جميعا على هذه الصفات ، وهو أن يكونا جميعا عاقلين بالغين حرين مسلمين ، فوجود هذه الصفات جميعا فيهما شرط ; لكون كل واحد منهما محصنا ، والدخول في النكاح الصحيح بعد سائر الشرائط متأخرا عنها ، فإن تقدمها لم يعتبر ما لم يوجد دخول آخر بعدها ، فلا إحصان للصبي والمجنون والعبد والكافر ، ولا بالنكاح الفاسد [ ص: 38 ] ولا بنفس النكاح ما لم يوجد الدخول .

                                                                                                                                وما لم يكن الزوجان جميعا وقت الدخول على صفة الإحصان ، حتى أن الزوج العاقل البالغ الحر المسلم إذا دخل بزوجته ، وهي صبية أو مجنونة أو أمة أو كتابية ، ثم أدركت الصبية وأفاقت المجنونة وأعتقت الأمة وأسلمت الكافرة ; لا يصير محصنا ما لم يوجد دخول آخر بعد زوال هذه العوارض ، حتى لو زنى قبل دخول آخر - لا يرجم ، فإذا وجدت هذه الصفات صار الشخص محصنا ; لأن الإحصان في اللغة عبارة عن الدخول في الحصن ، يقال : أحصن ، أي دخل الحصن ، كما يقال : أعرق أي دخل العراق ، وأشأم أي دخل الشام ، وأحصن أي دخل في الحصن ، ومعناه دخل حصنا عن الزنا إذا دخل فيه ، وإنما يصير الإنسان داخلا في الحصن عن الزنا عند توفر الموانع ، وكل واحد من هذه الجملة مانع عن الزنا ، فعند اجتماعها تتوفر الموانع .

                                                                                                                                أما العقل ; فلأن للزنا عاقبة ذميمة ، والعقل يمنع عن ارتكاب ما له عاقبة ذميمة .

                                                                                                                                وأما البلوغ فإن الصبي ; لنقصان عقله ولقلة تأمله لاشتغاله باللهو واللعب لا يقف على عواقب الأمور فلا يعرف الحميدة منها والذميمة .

                                                                                                                                وأما الحرية ; فلأن الحر يستنكف عن الزنا وكذا الحرة ; ولهذا { لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم آية المبايعة على النساء وبلغ إلى قول الله تعالى { ولا يزنين } قالت هند امرأة أبي سفيان : أوتزني الحرة يا رسول الله ؟ } وأما الإسلام ; فلأنه نعمة كاملة موجبة للشكر فيمنع من الزنا الذي هو وضع الكفر في موضع الشكر .

                                                                                                                                وأما اعتبار اجتماع هذه الصفات في الزوجين جميعا ; فلأن اجتماعها فيهما يشعر بكمال حالهما ، وذا يشعر بكمال اقتضاء الشهوة من الجانبين ; لأن اقتضاء الشهوة بالصبية والمجنونة قاصر ، وكذا بالرقيق ; لكون الرق من نتائج الكفر فينفر عنه الطبع ، وكذا بالكافرة ; لأن طبع المسلم ينفر عن الاستمتاع بالكافرة .

                                                                                                                                ولهذا { قال النبي عليه الصلاة والسلام لحذيفة رضي الله عنه حين أراد أن يتزوج يهودية : دعها فإنها لا تحصنك } وأما الدخول بالنكاح الصحيح ; فلأنه اقتضاء الشهوة بطريق حلال فيقع به الاستغناء عن الحرام ، والنكاح الفاسد لا يفيد فلا يقع به الاستغناء .

                                                                                                                                وأما كون الدخول آخر الشرائط ; فلأن الدخول قبل استيفاء سائر الشرائط لا يقع اقتضاء الشهوة على سبيل الكمال ، فلا تقع الغنية به عن الحرام على التمام ، وبعد استيفائها تقع به الغنية على الكمال والتمام ، فثبت أن هذه الجملة موانع عن الزنا فيحصل بها معنى الإحصان وهو الدخول في الحصن عن الزنا ، ولا خلاف في هذه الجملة إلا في الإسلام ، فإنه روي عن أبي يوسف أنه ليس من شرائط الإحصان حتى لا يصير المسلم محصنا بنكاح الكتابية ، والدخول بها في ظاهر الرواية .

                                                                                                                                وكذلك الذمي العاقل البالغ الحر الثيب إذا زنى لا يرجم في ظاهر الرواية بل يجلد ، وعلى ما روي عن أبي يوسف يصير المسلم محصنا بنكاح الكتابية ، ويرجم الذمي به ، وبه أخذ الشافعي - رحمه الله تعالى - واحتجا بما روي { أنه عليه الصلاة والسلام رجم يهوديين ، } ولو كان الإسلام شرطا لما رجم ; ولأن اشتراط الإسلام للزجر عن الزنا ، والدين المطلق يصلح للزجر عن الزنا ; لأن الزنا حرام في الأديان كلها .

                                                                                                                                ( ولنا ) في زنا الذمي قوله تعالى { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } أوجب سبحانه وتعالى الجلد على كل زان وزانية ، أو على مطلق الزاني والزانية من غير فصل بين المؤمن والكافر ، ومتى وجب الجلد انتفى وجوب الرجم ضرورة ; ولأن زنا الكافر لا يساوي زنا المسلم في كونه جناية ، فلا يساويه في استدعاء العقوبة كزنا البكر مع زنا الثيب .

                                                                                                                                وبيان ذلك : أن زنا المسلم اختص بمزيد قبح انتفى ، ذلك في زنا الكافر وهو كون زناه وضع الكفران في موضع الشكر ; لأن دين الإسلام نعمة ودين الكفر ليس بنعمة ، وفي زنا المسلم بالكتابية { قوله عليه الصلاة والسلام لحذيفة رضي الله عنه حين أراد أن يتزوج يهودية : دعها فإنها لا تحصنك } وقوله عليه الصلاة والسلام { من أشرك بالله فليس بمحصن } والذمي مشرك على الحقيقة فلم يكن محصنا وما ذكرنا أن في اقتضاء الشهوة بالكافرة قصورا ، فلا يتكامل معنى النعمة فلا يتكامل الزاجر ، وقوله الزجر يحصل بأصل الدين قلنا : نعم ، لكنه لا يتكامل إلا بدين الإسلام ; لأنه نعمة فيكون الزنا - من المسلم - وضع الكفران في موضع الشكر ، ودين الكفر ليس بنعمة ; فلا يكون في كونه زاجرا مثله .

                                                                                                                                وأما حديث رجم اليهوديين فيحتمل أنه كان قبل نزول آية الجلد ; فانتسخ بها .

                                                                                                                                ويحتمل أنه كان بعد نزولها ، ونسخ خبر الواحد أهون من نسخ الكتاب العزيز ، وإحصان كل واحد من الزانيين ليس بشرط [ ص: 39 ] لوجوب الرجم على أحدهما ، حتى لو كان أحدهما محصنا والآخر غير محصن ، فالمحصن منهما يرجم ، وغير المحصن يجلد ، ثم إذا ظهر إحصان الزاني بالبينة أو بالإقرار يرجم بالنص والمعقول ، أما النص فالحديث المشهور ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام { لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى معان ثلاث : كفر بعد إيمان ، وزنا بعد إحصان ، وقتل نفس بغير حق } .

                                                                                                                                وروي { أنه عليه الصلاة والسلام رجم ماعزا وكان محصنا } .

                                                                                                                                وأما المعقول فهو أن المحصن إذا توفرت عليه الموانع من الزنا ، فإذا أقدم عليه مع توفر الموانع - صار زناه غاية في القبح ، فيجازى بما هو غاية في العقوبات الدنيوية وهو الرجم ; لأن الجزاء على قدر الجناية ، ألا ترى أن الله سبحانه وتعالى توعد نساء النبي عليه الصلاة والسلام بمضاعفة العذاب إذا أتين بفاحشة ; لعظم جنايتهن ; لحصولها مع توفر الموانع فيهن ; لعظم نعم الله - سبحانه وتعالى - عليهن ; لنيلهن صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضاجعته ، فكانت جنايتهن على تقدير الإتيان غاية في القبح ، فأوعدن بالغاية من الجزاء .

                                                                                                                                كذا ههنا ، ولا يجمع بين الجلد والرجم عند عامة العلماء ، وقال بعض الناس : يجمع بينهما ; لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام { والثيب بالثيب جلد مائة ، ورجم بالحجارة } .

                                                                                                                                ( ولنا ) { أنه عليه الصلاة والسلام رجم ماعزا ولم يجلده } ، ولو وجب الجمع بينهما لجمع ; ولأن الزنا جناية واحدة فلا يوجب إلا عقوبة واحدة ، والجلد والرجم كل واحد منهما عقوبة على حدة ، فلا يجبان لجناية واحدة ، والحديث محمول على الجمع بينهما في الجلد والرجم ، لكن في حالين فيكون عملا بالحديث ، وإذا فقد شرط من شرائط الإحصان لا يرجم بل يجلد ; لأن الواجب بنفس الزنا هو الجلد بآية الجلد ; ولأن زنا غير المحصن لا يبلغ غاية في القبح فلا تبلغ عقوبته النهاية ، فيكتفى بالجلد وهل يجمع بين الجلد والتغريب ؟ اختلف فيه قال أصحابنا : لا يجمع إلا إذا رأى الإمام المصلحة في الجمع بينهما ; فيجمع وقال الشافعي - رحمه الله : يجمع بينهما ، احتج بما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : { البكر بالبكر جلد مائة ، وتغريب عام } وروي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه جلد وغرب ، وكذا روي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه فعل كذا ، ولم ينكر عليهما أحد من الصحابة ، فيكون إجماعا .

                                                                                                                                ( ولنا ) قوله عز وجل { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } .

                                                                                                                                والاستدلال به من وجهين : أحدهما - أنه - عز وجل - أمر بجلد الزانية والزاني ، ولم يذكر التغريب ، فمن أوجبه فقد زاد على كتاب الله - عز وجل - والزيادة عليه نسخ ، ولا يجوز نسخ النص بخبر الواحد ، والثاني - أنه سبحانه وتعالى جعل الجلد جزاء ، والجزاء اسم لما تقع به الكفاية مأخوذ من الاجتزاء - وهو الاكتفاء - فلو أوجبنا التغريب لا تقع الكفاية بالجلد ، وهذا خلاف النص ; لأن التغريب تعريض للمغرب على الزنا ; لأنه ما دام في بلده يمتنع عن العشائر والمعارف حياء منهم ، وبالتغريب يزول هذا المعنى فيعرى الداعي عن الموانع فيقدم عليه ، والزنا قبيح فما أفضى إليه مثله ، وفعل الصحابة محمول على أنهم رأوا ذلك مصلحة على طريق التعزير ، ألا يرى أنه روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه نفى رجلا فلحق بالروم فقال : لا أنفي بعدها أبدا .

                                                                                                                                وعن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال : كفى بالنفي فتنة فدل أن فعلهم كان على طريق التعزير ، ونحن به نقول : إن للإمام أن ينفي إن رأى المصلحة في التغريب ، ويكون النفي تعزيرا لا حدا ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم وأما إحصان القذف فنذكره في حد القذف إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية