الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل وأصل الشكر في وضع اللسان : ظهور أثر الغذاء في أبدان الحيوان ظهورا بينا . يقال : شكرت الدابة تشكر شكرا على وزن سمنت تسمن سمنا : إذا ظهر عليها أثر العلف ، ودابة شكور : إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تأكل وتعطى من العلف .

وفي صحيح مسلم حتى إن الدواب لتشكر من لحومهم أي لتسمن من كثرة ما تأكل منها .

وكذلك حقيقته في العبودية . وهو ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده : ثناء واعترافا . وعلى قلبه : شهودا ومحبة . وعلى جوارحه : انقيادا وطاعة .

والشكر مبني على خمس قواعد : خضوع الشاكر للمشكور . وحبه له . واعترافه بنعمته . وثناؤه عليه بها . وأن لا يستعملها فيما يكره .

فهذه الخمس : هي أساس الشكر . وبناؤه عليها . فمتى عدم منها واحدة : اختل من قواعد الشكر قاعدة .

وكل من تكلم في الشكر وحده ، فكلامه إليها يرجع . وعليها يدور .

فقيل : حده الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع .

وقيل : الثناء على المحسن بذكر إحسانه .

[ ص: 135 ] وقيل : هو عكوف القلب على محبة النعم ، والجوارح على طاعته ، وجريان اللسان بذكره ، والثناء عليه .

وقيل : هو مشاهدة المنة . وحفظ الحرمة .

وما ألطف ما قال حمدون القصار : شكر النعمة أن ترى نفسك فيها طفيليا .

وقال أبو عثمان : الشكر معرفة العجز عن الشكر .

وقيل : الشكر إضافة النعم إلى موليها بنعت الاستكانة له .

وقال الجنيد : الشكر أن لا ترى نفسك أهلا للنعمة .

هذا معنى قول حمدون أن يرى نفسه فيها طفيليا .

وقال رويم : الشكر استفراغ الطاقة .

وقال الشبلي : الشكر رؤية المنعم لا رؤية النعمة .

قلت : يحتمل كلامه أمرين .

أحدهما : أن يفنى برؤية المنعم عن رؤية نعمه .

والثاني : أن لا تحجبه رؤية نعمه ومشاهدتها عن رؤية المنعم بها . وهذا أكمل . والأول أقوى عندهم .

والكمال : أن تشهد النعمة والمنعم . لأن شكره بحسب شهود النعمة . فكلما كان أتم كان الشكر أكمل . والله يحب من عبده : أن يشهد نعمه ، ويعترف له بها . ويثني عليه بها . ويحبه عليها . لا أن يفنى عنها . ويغيب عن شهودها .

وقيل : الشكر قيد النعم الموجودة ، وصيد النعم المفقودة .

وشكر العامة : على المطعم والمشرب والملبس ، وقوت الأبدان .

وشكر الخاصة : على التوحيد والإيمان وقوت القلوب .

وقال داود عليه السلام : يا رب ، كيف أشكرك ؟ وشكري لك نعمة علي من عندك تستوجب بها شكرا . فقال : الآن شكرتني يا داود .

[ ص: 236 ] وفي أثر آخر إسرائيلي : أن موسى صلى الله عليه وسلم قال يا رب ، خلقت آدم بيدك . ونفخت فيه من روحك . وأسجدت له ملائكتك . وعلمته أسماء كل شيء . وفعلت وفعلت . فكيف شكرك ؟ قال الله عز وجل : علم أن ذلك مني . فكانت معرفته بذلك شكرا لي .

وقيل : الشكر التلذذ بثنائه ، على ما لم تستوجب من عطائه .

وقال الجنيد - وقد سأله سري عن الشكر ، وهو صبي - الشكر : أن لا يستعان بشيء من نعم الله على معاصيه . فقال : من أين لك هذا ؟ قال : من مجالستك .

وقيل : من قصرت يداه عن المكافآت فليطل لسانه بالشكر .

والشكر معه المزيد أبدا . لقوله تعالى : لئن شكرتم لأزيدنكم فمتى لم تر حالك في مزيد . فاستقبل الشكر .

وفي أثر إلهي : يقول الله عز وجل أهل ذكري أهل مجالستي ، وأهل شكري أهل زيادتي ، وأهل طاعتي أهل كرامتي ، وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي . إن تابوا فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم . أبتليهم بالمصائب ، لأطهرهم من المعايب .

وقيل : من كتم النعمة فقد كفرها . ومن أظهرها ونشرها فقد شكرها .

وهذا مأخوذ من قوله : صلى الله عليه وسلم إن الله إذا أنعم على عبد بنعمة أحب أن يرى أثر نعمته على عبده .

وفي هذا قيل :


ومن الرزية أن شكري صامت عما فعلت وأن برك ناطق     وأرى الصنيعة منك ثم أسرها
إني إذا لندى الكريم لسارق

التالي السابق


الخدمات العلمية