الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( كتاب السرقة )

                                                                                                                                يحتاج لمعرفة مسائل السرقة إلى معرفة ركن السرقة ، وإلى معرفة شرائط الركن ، وإلى معرفة ما يظهر به السرقة عند القاضي ، وإلى معرفة حكم السرقة .

                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                أما ركن السرقة فهو الأخذ على سبيل الاستخفاء قال الله تبارك وتعالى { إلا من استرق السمع } سمى سبحانه وتعالى أخذ المسموع على وجه الاستخفاء استراقا ; ولهذا يسمى الأخذ على سبيل المجاهرة مغالبة أو نهبة ، أو خلسة ، أو غصبا ، أو انتهابا واختلاسا لا سرقة وروي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه سئل عن المختلس ، والمنتهب فقال : تلك الدعابة لا شيء فيها .

                                                                                                                                وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال { : لا قطع على نباش ولا منتهب ولا خائن } ، ثم الأخذ على وجه الاستخفاء نوعان : مباشرة ، وتسبب ( أما ) المباشرة فهو أن يتولى السارق أخذ المتاع ، وإخراجه من الحرز بنفسه حتى لو دخل الحرز ، وأخذ متاعا فحمله ، أو لم يحمله حتى ظهر عليه وهو في الحرز قبل أن يخرجه فلا قطع عليه ; لأن الأخذ إثبات اليد ، ولا يتم ذلك إلا بالإخراج من الحرز ولم يوجد .

                                                                                                                                وإن رمى به خارج الحرز ، ثم ظهر عليه قبل أن يخرج هو من الحرز فلا قطع عليه ; لأن يده ليست بثابتة عليه عند الخروج من الحرز ، فإن لم يظهر عليه حتى خرج ، وأخذ ما كان رمى به خارج الحرز يقطع ، وروي عن زفر - رحمه الله - : أنه لا يقطع .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله : أن الأخذ من الحرز لا يتم إلا بالإخراج منه ، والرمي ليس بإخراج ، والأخذ من الخارج ليس أخذا من الحرز فلا يكون سرقة .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن المال في حكم يده ما لم تثبت عليه يد غيره ، فقد وجد منه الأخذ والإخراج من الحرز ، ولو رمى به إلى صاحب له خارج الحرز فأخذه المرمي إليه فلا قطع على واحد منهما : ( أما ) الخارج ; فلأنه لم يوجد منه الأخذ من الحرز .

                                                                                                                                ( وأما ) الداخل ; فلأنه لم يوجد منه الإخراج من الحرز لثبوت يد الخارج عليه ، ولو ناول صاحبا له مناولة من وراء الجدار ولم يخرج هو : فلا قطع على واحد منهما عند أبي حنيفة - رحمه الله - وعندهما يقطع الداخل ، ولا يقطع الخارج إذا كان الخارج لم يدخل يده إلى الحرز .

                                                                                                                                ( وجه ) قولهما : أن الداخل لما ناول صاحبه فقد أقام يد صاحبه مقام يده ، فكأنه خرج والمال في يده .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله على نحو ما ذكرنا في المسألة المتقدمة : أنه لا سبيل إلى إيجاب القطع على الخارج لانعدام فعل السرقة منه ، وهو الأخذ من الحرز ، ولا سبيل إلى إيجابه على الداخل ; لانعدام ثبوت يده عليه حالة الخروج من الحرز ; لثبوت يد صاحبه ، بخلاف ما إذا رمى به إلى السكة ، ثم خرج وأخذه ; لأنه لما لم تثبت عليه يد غيره فهو في حكم يده ، فكأنه خرج به حقيقة ، وإن كان الخارج أدخل يده في الحرز فأخذه من يد الداخل : فلا قطع على واحد منهما في قول أبي حنيفة ، وقال [ ص: 66 ] أبو يوسف : أقطعهما جميعا .

                                                                                                                                ( أما ) عدم وجوب القطع على الداخل على أصل أبي حنيفة - رحمه الله - ; فلعدم الإخراج من الحرز ، يحققه أنه لو أخرج يده ، وناول صاحبا له لم يقطع ، فعند عدم الإخراج أولى ، والوجوب عليه على أصل أبي يوسف - رحمه الله - لما ذكرنا في المسألة المتقدمة .

                                                                                                                                ( وأما ) الكلام في الخارج فمبني على مسألة أخرى ، وهي أن السارق إذا نقب منزلا ، وأدخل يده فيه ، وأخرج المتاع ، ولم يدخل فيه هل يقطع ؟ ذكر في الأصل ، وفي الجامع الصغير : أنه لا يقطع ، ولم يحك خلافا ، وقال أبو يوسف في الإملاء : " أقطع ولا أبالي دخل الحرز ، أو لم يدخل " ، وعلى هذا الخلاف إذا نقب ودخل ، وجمع المتاع عند النقب ، ثم خرج ، وأدخل يده فرفع .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله أن الركن في السرقة هو الأخذ من الحرز ، فأما الدخول في الحرز فليس بركن ، ألا ترى أنه لو أدخل يده في الصندوق ، أو في الجوالق ، وأخرج المتاع يقطع ، وإن لم يوجد الدخول ، ولهما ما روي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال : " إذا كان اللص ظريفا لم يقطع قيل : وكيف يكون ظريفا ؟ قال : يدخل يده إلى الدار ويمكنه دخولها " ، ولم ينقل أنه أنكر عليه منكر فيكون إجماعا ; ولأن هتك الحرز على سبيل الكمال شرط ; لأن به تتكامل الجناية ، ولا يتكامل الهتك فيما يتصور فيه الدخول إلا بالدخول ، ولم يوجد ، بخلاف الأخذ من الصندوق ، والجوالق ; لأن هتكهما بالدخول متعذر ، فكان الأخذ بإدخال اليد فيها هتكا متكاملا فيقطع ولو أخرج السارق المتاع من بعض بيوت الدار إلى الساحة : لا يقطع ما لم يخرج من الدار ; لأن الدار مع اختلاف بيوتها حرز ، واحد ، ألا ترى أنه إذا قيل لصاحب الدار احفظ هذه الوديعة في هذا البيت فحفظ في بيت آخر فضاعت لم يضمن .

                                                                                                                                وكذا إذا أذن لإنسان في دخول الدار فدخلها فسرق من البيت لا يقطع ، وإن لم يأذن له بدخول البيت دل أن الدار مع اختلاف بيوتها حرز ، واحد فلم يكن الإخراج إلى صحن الدار إخراجا من الحرز ، بل هو نقل من بعض الحرز إلى البعض بمنزلة النقل من زاوية إلى زاوية أخرى ، هذا إذا كانت الدار مع بيوتها لرجل واحد ، فأما إذا كان كل منزل فيها لرجل فأخرج المتاع من البيت إلى الساحة يقطع ; لأن كل بيت حرز على حدة ، فكان الإخراج منه إخراجا من الحرز ، وكذلك إذا كان في الدار حجر ، ومقاصير فسرق من مقصور منها وخرج به إلى صحن الدار قطع ; لأن كل مقصورة منها حرز على حدة ، فكان الإخراج منها إخراجا من الحرز بمنزلة الدار المختلفة في محلة واحدة .

                                                                                                                                ولو نقب رجلان ، ودخل أحدهما فاستخرج المتاع فلما خرج به إلى السكة حملاه جميعا ينظر : إن عرف الداخل منهما بعينه قطع ; لأنه هو السارق لوجود الأخذ والإخراج منه ، ويعزر الخارج ; لأنه أعانه على المعصية ، وهذه معصية ليس فيها حد مقدر فيعزر ، وإن لم يعرف الداخل منهما لم يقطع واحد منهما ; لأن من عليه القطع مجهول ، ويعزران : أما الخارج فلما ذكرنا .

                                                                                                                                وأما الداخل فلارتكابه جناية لم يستوف فيها الحد لعذر فتعين التعزير ، ولو نقب بيت رجل ، ودخل عليه مكابرة ليلا حتى سرق منه متاعه يقطع ; لأنه إن لم يوجد الأخذ على سبيل الاستخفاء من المالك فقد وجد من الناس ; لأن الغوث لا يلحق بالليل ; لكونه وقت نوم ، وغفلة فتحققت السرقة والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية