الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 90 ] مسألة ; قال : ( ومن أقر بشيء ، واستثنى من غير جنسه ، كان استثناؤه باطلا ، إلا أن يستثني عينا من ورق ، أو ورقا من عين ) في هذه المسألة فصلان : ( 3819 ) أولهما : أنه لا يصح الاستثناء في الإقرار من غير الجنس ، وبهذا قال زفر ومحمد بن الحسن ، وقال أبو حنيفة إن استثنى مكيلا أو موزونا ، جاز ، وإن استثنى عبدا أو ثوبا من مكيل أو موزون ، لم يجز . وقال مالك والشافعي يصح الاستثناء من غير الجنس مطلقا ; لأنه ورد في الكتاب العزيز ولغة العرب ، قال الله تعالى : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن } . وقال الله تعالى : { لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما } . وقال الشاعر :

                                                                                                                                            وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس

                                                                                                                                            وقال آخر :

                                                                                                                                            عيت جوابا وما بالربع من أحد


                                                                                                                                            إلا أواري لأيا ما أبينها

                                                                                                                                            ولنا أن الاستثناء صرف اللفظ بحرف الاستثناء عما كان يقتضيه لولاه .

                                                                                                                                            وقيل : هو إخراج بعض ما تناوله المستثنى منه ، مشتق من ثنيت فلانا عن رأيه . إذا صرفته عن رأي كان عازما عليه . وثنيت عنان دابتي . إذا صرفتها به عن وجهتها التي كانت تذهب إليها . وغير الجنس المذكور ليس بداخل في الكلام ، فإذا ذكره ، فما صرف الكلام عن صوبه ، ولا ثناه عن وجه استرساله ، فلا يكون استثناء ، وإنما سمي استثناء تجوزا ، وإنما هو في الحقيقة استدراك . " وإلا " هاهنا بمعنى " لكن " . هكذا قال أهل العربية ; منهم ابن قتيبة ، وحكاه عن سيبويه .

                                                                                                                                            والاستدراك لا يأتي إلا بعد الجحد ، ولذلك لم يأت الاستثناء في الكتاب العزيز من غير الجنس إلا بعد النفي ، ولا يأتي بعده الإثبات ، إلا أن يوجد بعده جملة .

                                                                                                                                            وإذا تقرر هذا ، فلا مدخل للاستدراك في الإقرار ; لأنه إثبات للمقر به ، فإذا ذكر الاستدراك بعده كان باطلا ، وإن ذكره بعد جملة كأن قال : له عندي مائة درهم إلا ثوبا لي عليه . فيكون مقرا بشيء مدعيا لشيء سواه ، فيقبل إقراره ، وتبطل دعواه ، كما لو صرح بذلك بغير لفظ الاستثناء . وأما قوله تعالى : { فسجدوا إلا إبليس } فإن إبليس كان من الملائكة ، بدليل أن الله تعالى لم يأمر بالسجود غيرهم ، فلو لم يكن منهم لما كان مأمورا بالسجود ، ولا عاصيا بتركه ، ولا قال الله تعالى في حقه : { ففسق عن أمر ربه } . ولا قال : { ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك . } وإذا لم يكن مأمورا فلم أنكسه الله وأهبطه ودحره ؟ ولم يأمر الله تعالى بالسجود إلا الملائكة . فإن قالوا : بل قد تناول الأمر الملائكة ومن كان معهم ، فدخل إبليس في الأمر لكونه معهم .

                                                                                                                                            قلنا : قد سقط استدلالكم ، فإنه متى كان إبليس داخلا في المستثنى منه ، مأمورا بالسجود ، فاستثناؤه من الجنس ، وهذا ظاهر لمن أنصف ، إن شاء الله تعالى . فعلى هذا ، متى قال : له علي ألف درهم [ ص: 91 ] إلا ثوبا . لزمه الألف ، وسقط الاستثناء ، بمنزلة ما لو قال : له علي ألف درهم ، لكن لي عليه ثوب . ( 3820 ) الفصل الثاني : إذا استثنى عينا من ورق ، أو ورقا من عين ، فاختلف أصحابنا في صحته ; فذهب أبو بكر عبد العزيز إلى أنه لا يصح ; لما ذكرنا .

                                                                                                                                            وهو قول محمد بن الحسن . وقال ابن أبي موسى : فيه روايتان . واختار الخرقي صحته ; لأن قدر أحدهما معلوم من الآخر ، ويعبر بأحدهما عن الآخر ، فإن قوما يسمون تسعة دراهم دينارا ، وآخرون يسمون ثمانية دراهم دينارا ، فإذا استثنى أحدهما من الآخر ، علم أنه أراد التعبير بأحدهما عن الآخر ، فإذا قال : له علي دينار إلا ثلاثة دراهم ، في موضع يعبر فيه بالدينار عن تسعة ، كان معناه : له علي تسعة دراهم إلا ثلاثة .

                                                                                                                                            ومتى أمكن حمل الكلام على وجه صحيح ، لم يجز إلغاؤه ، وقد أمكن بهذا الطريق ، فوجب تصحيحه . وقال أبو الخطاب لا فرق بين العين والورق وبين غيرهما ، فيلزم من صحة استثناء أحدهما من الآخر صحة استثناء الثياب وغيرها . وقد ذكرنا الفرق . ويمكن الجمع بين الروايتين بحمل رواية الصحة على ما إذا كان أحدهما يعبر به عن الآخر ، أو يعلم قدره منه ، ورواية البطلان على ما إذا انتفى ذلك ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية