الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما حكم قطع الطريق فله حكمان : أحدهما : يتعلق بالنفس ، والآخر يتعلق بالمال : أما الذي يتعلق بالنفس فهو وجوب الحد ، والكلام في هذا الحكم في مواضع : في بيان أصل هذا الحكم ، وفي بيان صفاته ، وفي بيان محل إقامته ، وفي بيان من يقيمه ، وفي بيان ما يسقطه بعد الوجوب ، وفي بيان حكم السقوط بعد الوجوب ، أو عدم الثبوت لمانع : أما أصل الحكم الذي يتعلق بالنفس فلن يمكن الوصول إلى معرفته إلا بعد معرفة أنواع قطع الطريق ; لأنه يختلف باختلاف أنواعه فنقول وبالله التوفيق : قطع الطريق أربعة أنواع : .

                                                                                                                                إما أن يكون بأخذ المال لا غير ، وإما أن يكون بالقتل لا غير ، وإما أن يكون بهما جميعا ، وإما أن يكون بالتخويف من غير أخذ ، ولا قتل ، فمن أخذ المال ، ولم يقتل قطعت يده ، ورجله من خلاف ، ومن قتل ، ولم يأخذ المال قتل ، ومن أخذ المال ، وقتل قال أبو حنيفة رضي الله عنه : الإمام بالخيار إن شاء قطع يده ، ورجله ، ثم قتله أو صلبه ، وإن شاء لم يقطه ، وقتله أو صلبه ، وقيل : إن تفسير الجمع بين القطع والقتل عند أبي حنيفة - رحمه الله - هو : أن يقطعه الإمام ، ولا يحسم موضع القطع ، بل يتركه حتى يموت ، وعندهما يقتل ، ولا يقطع ، ومن أخاف ، ولم يأخذ مالا ، ولا قتل نفسا ينفى ، وقال مالك - رحمه الله - في قاطع الطريق : مخير بين الأجزية المذكورة .

                                                                                                                                والأصل فيه قوله - عز وجل - { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض } احتج مالك - رحمه الله - بظاهر الآية ، وهو أن الله تبارك وتعالى ذكر الأجزية فيها بحرف ، أو ، وأنها للتخيير كما في كفارة اليمين ، وكفارة جزاء الصيد ; فيجب العمل بحقيقة هذا الحرف إلا حيث قام الدليل ، بخلافها .

                                                                                                                                ( ولنا ) أنه لا يمكن إجراء الآية على ظاهر التخيير في مطلق المحارب ; لأن الجزاء على قدر الجناية يزداد بزيادة الجناية ، وينتقص بنقصانها هذا هو مقتضى العقل ، والسمع أيضا قال الله - تبارك وتعالى - { : وجزاء سيئة سيئة مثلها } فالتخيير في الجناية القاصرة بالجزاء في الجزاء الذي هو جزاء في الجناية الكاملة ، وفي الجناية الكاملة بالجزاء الذي هو جزاء في الجناية القاصرة خلاف المشروع يحققه أن الأمة اجتمعت على أن القطاع لو أخذوا المال ، وقتلوا لا يجازون بالنفي وحده .

                                                                                                                                وإن كان ظاهر الآية يقتضي التخيير بين الأجزية الأربع دل أنه لا يمكن العمل بظاهر التخيير على أن التخيير الوارد في الأحكام المختلفة من حيث الصورة بحرف التخيير إنما يجري على ظاهره إذا كان سبب الوجوب واحدا ، كما في كفارة اليمين ، وكفارة جزاء الصيد ، أما إذا كان مختلفا فيخرج مخرج بيان الحكم لكل في نفسه كما في قوله تعالى { قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا } إن ذلك ليس للتخيير بين المذكورين ، بل لبيان [ ص: 94 ] الحكم لكل في نفسه ; لاختلاف سبب الوجوب ، وتأويله إما أن تعذب من ظلم أو تتخذ الحسن فيمن آمن ، وعمل صالحا .

                                                                                                                                ألا ترى إلى قوله { أما من ظلم فسوف نعذبه } الآية { وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى } الآية ، وقطع الطريق متنوع في نفسه ، وإن كان متحدا من حيث الذات قد يكون بأخذ المال وحده ، وقد يكون بالقتل لا غير ، وقد يكون بالجمع بين الأمرين ، قد يكون بالتخويف لا غير ، فكان سبب الوجوب مختلفا فلا يحمل على التخيير ، بل على بيان الحكم لكل نوع ، أو يحتمل هذا ، ويحتمل ما ذكرتم فلا يكون حجة مع الاحتمال .

                                                                                                                                وإذا لم يمكن صرفت الآية الشريفة إلى ظاهر التخيير في مطلق المحارب فإما أن يحمل على الترتيب ، ويضمر في كل حكم مذكور نوع من أنواع قطع الطريق كأنه قال - سبحانه وتعالى - { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا } إن أخذوا المال ، وقتلوا { أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف } إن أخذوا المال لا غير { أو ينفوا من الأرض } إن أخافوا هكذا { ذكر - سيدنا - جبريل عليه الصلاة والسلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما قطع أبو بردة رضي الله عنه بأصحابه الطريق على أناس جاءوا يريدون الإسلام أن من قتل قتل ، ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف ومن قتل وأخذ المال صلب ، ومن جاء مسلما هدم الإسلام ما كان قبله من الشرك } ، وإلى هذا التأويل يذهب عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، وإبراهيم النخعي ، وإما أن يعمل بظاهر التخيير بين الأجزية الثلاثة ، لكن في محارب خاص ، وهو الذي أخذ المال ، وقتل ، فكان العمل بظاهر التخيير على هذا الوجه أقرب من ظاهر الآية ; لأن الله - تبارك وتعالى - جمع بين القتل ، وقطع الطريق في الذكر بقوله - تبارك وتعالى - { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا } فالمحاربة هي القتل ، والفساد في الأرض هو قطع الطريق فأوجب - سبحانه وتعالى - أحد الأجزية من الفعلين بما ذكر ، وفيه عمل بحقيقة حرف التخيير ، وعمل بحقيقة ما أضيف إليه الجزاء .

                                                                                                                                وهو ما ذكر سبحانه - وتعالى - من المحاربة ، والسعي في الأرض بالفساد ، فكان أقرب إلى ظاهر الآية ، إلى هذا التأويل يذهب الحسن ، وابن المسيب ، ومجاهد ، وغيرهم رضي الله عنهم ، ثم أبو يوسف ، ومحمد - رحمهما الله - أخذا بالتأويل الأول ، وهو تأويل الترتيب في المحارب إذا أخذ المال ، وقيل : إنه يقتل لا غير ; لأن - سيدنا - جبريل عليه الصلاة والسلام ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما مر ، وحد قطاع الطريق لم يعرف إلا بهذا النص ، ولأن أخذ المال ، والقتل جناية واحدة ، وهي جناية قطع الطريق فلا يقابل إلا بعقوبة واحدة ، والقتل ، والقطع عقوبتان على أنهما إن كانتا جنايتين يجب بكل واحدة منهما جزاء عند الانفراد حقا لله تعالى لكنهما إذا اجتمعا يدخل ما دون النفس في النفس كالسارق إذا زنى ، وهو محصن .

                                                                                                                                وكمن زنى وهو غير محصن ثم أحصن فزنى : أنه لا يرجم لا غير كذا ههنا ; ولأنه لا فائدة في إقامة القطع ; لأن ما هو المقصود من الحد وهو الزجر ، وما هو غير مقصود به وهو التكفير يحصل بالقتل وحده فلا يفيد القطع ، فلا يشرع ، وأبو حنيفة - رحمه الله - أخذ بالتأويل الثاني ، وهو التخيير بين الأجزية الثلاثة في المحارب الذي جمع بين أخذ المال ، والقتل ، وهو أحق التأويلين للآية ; لما ذكرنا أن فيه عملا بحقيقة حرف التخيير ، وبحقيقة ما أضيف إليه الجزاء ، وهو المحاربة ، والسعي في الأرض بالفساد ، فكان أقرب إلى ظاهر الآية ، وإنما عرفنا حكم أخذ المال وحده ، وحكم القتل وحده لا بهذه الآية الشريفة ، ولكن بحديث - سيدنا - جبريل عليه الصلاة والسلام أو غيره ، أو بالاستدلال بحالة الاجتماع .

                                                                                                                                وهو أنه لما وجب الجمع بين الموجبين عند وجود القطعين ; يجب القبول بإفراد كل واحد منهما عند الانفراد ، ويمكن أن يقال : إنه يقول في تأويل الآية الكريمة بالترتيب فيوجب الصلب بظاهر الآية الشريفة ، والقطع بالاستدلال بحالة الانفراد أنه يجب على كل واحد منهما ، فعند الاجتماع يجب أن يجمع إلا أن في بعض المواضع قام دليل إسقاط الأخف ، ولم يقم ههنا ، بل قام دليل الوجوب ; لأن مبنى هذا الباب على التغليظ ألا ترى أنه يجمع بين قطع اليد ، والرجل في أخذ المال ، ولا يجمع بينهما في أخذ المال في المصر ، وكذلك يصلب في القتل وحده ههنا ، ولم يجب أن يصلب في غيره من القتل في المصر فكذا جاز أن يجمع بين الموجبين عند مباشرة النوعين ههنا دون سائر المواضع ، والله - سبحانه [ ص: 95 ] وتعالى - أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية