الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في الكفارات المسكوت عنها

فنقول : إن الجمهور اتفقوا على أن النسك ضربان : نسك هو سنة موكدة ، ونسك هو مرغب فيه .

فالذي هو سنة : يجب على تاركه الدم ; لأنه حج ناقص أصله المتمتع والقارن ، وروي عن ابن عباس أنه قال : من فاته من نسكه شيء فعليه دم ، وأما الذي هو نفل فلم يروا فيه دما ، ولكنهم اختلفوا اختلافا كثيرا في ترك نسك نسك هل فيه دم أم لا ؟ وذلك لاختلافهم فيه هل هو سنة أو نفل ؟

وأما ما كان فرضا : فلا خلاف عندهم أنه لا يجبر بالدم ، وإنما يختلفون في الفعل الواحد نفسه من قبل اختلافهم هل هو فرض أم لا ؟ وأما أهل الظاهر فإنهم لا يرون دما إلا حيث ورد النص ، لتركهم القياس ، وبخاصة في العبادات .

وكذلك اتفقوا على أن ما كان من التروك مسنونا ففعل ، ففيه فدية الأذى ، وما كان مرغبا فيه فليس فيه شيء .

واختلفوا في ترك فعل لاختلافهم هل هو سنة أم لا ؟ وأهل الظاهر لا يوجبون الفدية إلا في المنصوص عليه .

[ ص: 307 ] ونحن نذكر المشهور من اختلاف الفقهاء في ترك نسك نسك - أعني : في وجوب الدم ، أو لا وجوبه من أول المناسك إلى آخرها - ، وكذلك في فعل محظور محظور .

فأول ما اختلفوا فيه من المناسك : من جاوز الميقات فلم يحرم هل عليه دم ؟ فقال قوم : لا دم عليه . وقال قوم : عليه الدم وإن رجع ، وهو قول مالك وابن المبارك . وروي عن الثوري . وقال قوم : إن رجع إليه فليس عليه دم ، وإن لم يرجع فعليه دم ، وهو قول الشافعي وأبي يوسف ومحمد ومشهور قول الثوري . وقال أبو حنيفة : إن رجع ملبيا فلا دم عليه ، وإن رجع غير ملب كان عليه الدم . وقال قوم : هو فرض ولا يجبره بالدم .

واختلفوا فيمن غسل رأسه بالخطمي : فقال مالك وأبو حنيفة : يفتدي . وقال الثوري وغيره : لا شيء عليه .

ورأى مالك أن في الحمام الفدية ، وأباحه الأكثرون وروي عن ابن عباس من طريق ثابت دخوله .

والجمهور على أنه يفتدي من لبس من المحرمين ما نهي عن لباسه .

واختلفوا إذا لبس السراويل لعدم الإزار هل يفتدي أم لا ؟ فقال مالك وأبو حنيفة : يفتدي . وقال الثوري وأحمد وأبو ثور وداود : لا شيء عليه إذا لم يجد إزارا .

وعمدة من منع : النهي المطلق . وعمدة من لم ير فيه فدية : حديث عمرو بن دينار عن جابر وابن عباس قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " السراويل لمن لم يجد الإزار ، والخف لمن لم يجد النعلين " .

واختلفوا فيمن لبس الخفين مقطوعين مع وجود النعلين : فقال مالك : عليه الفدية ، وقال أبو حنيفة : لا فدية عليه ، والقولان عن الشافعي .

واختلفوا في لبس المرأة القفازين هل فيه فدية أم لا ؟ وقد ذكرنا كثيرا من هذه الأحكام في باب الإحرام .

وكذلك اختلفوا فيمن ترك التلبية : هل عليه دم أم لا ؟ وقد تقدم .

واتفقوا على أن من نكس الطواف أو نسي شوطا من أشواطه أنه يعيده ما دام بمكة . واختلفوا إذا بلغ إلى أهله : فقال قوم منهم أبو حنيفة : يجزيه الدم ، وقال قوم : بل يعيد ويجبر ما نقصه ولا يجزيه الدم .

وكذلك اختلفوا في وجوب الدم على من ترك الرمل في الأشواط ، وبالوجوب قال ابن عباس والشافعي وأبو حنيفة وأحمد وأبو ثور . واختلف في ذلك قول مالك وأصحابه .

والخلاف في هذه الأشياء كلها مبناه على أنه هل هو سنة أم لا ؟ وقد تقدم القول في ذلك .

وتقبيل الحجر أو تقبيل يده بعد وضعها عليه إذا لم يصل الحجر عند كل من لم يوجب الدم قياسا على المتمتع إذا تركه : فيه دم .

وكذلك اختلفوا فيمن نسي ركعتي الطواف حتى رجع إلى بلده هل عليه دم أم لا ؟ فقال مالك : عليه دم . وقال الثوري : يركعهما ما دام في الحرم . وقال الشافعي وأبو حنيفة : يركعهما حيث شاء .

والذين قالوا في طواف الوداع إنه ليس بفرض اختلفوا فيمن تركه ولم تتمكن له العودة إليه هل عليه دم أم لا ؟ فقال مالك : ليس عليه شيء إلا أن يكون قريبا فيعود . وقال أبو حنيفة والثوري : عليه دم إن لم [ ص: 308 ] يعد ، وإنما يرجع عندهم ما لم يبلغ المواقيت .

وحجة من لم يره سنة مؤكدة : سقوطه عن المكي والحائض .

وعند أبي حنيفة أنه إذا لم يدخل الحجر في الطواف أعاد ما لم يخرج من مكة ، فإن خرج فعليه دم .

واختلفوا هل من شرط صحة الطواف المشي فيه مع القدرة عليه ؟ فقال مالك : هو من شرطه كالقيام في الصلاة ، فإن عجز كان كصلاة القاعد ويعيد عنده أبدا ، إلا إذا رجع إلى بلده فإن عليه دما . وقال الشافعي : الركوب في الطواف جائز : " لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف بالبيت راكبا من غير مرض ، ولكنه أحب أن يستشرف الناس إليه " .

ومن لم ير السعي واجبا فعليه فيه دم إذا انصرف إلى بلده . ومن رآه تطوعا لم يوجب فيه شيئا .

وقد تقدم اختلافهم أيضا فيمن قدم السعي على الطواف هل فيه دم إذا لم يعد حتى يخرج من مكة أم ليس فيه دم ؟

واختلفوا في وجوب الدم على من دفع من عرفة قبل الغروب فقال الشافعي وأحمد : إن عاد فدفع بعد غروب الشمس فلا دم عليه ، وإن لم يرجع حتى طلع الفجر وجب عليه الدم . وقال أبو حنيفة والثوري : عليه الدم رجع أو لم يرجع . وقد تقدم هذا .

واختلفوا فيمن وقف من عرفة بعرنة ، فقال الشافعي : لا حج له ، وقال مالك : عليه دم .

وسبب الاختلاف : هل النهي عن الوقوف بها من باب الحظر ، أو من باب الكراهية .

وقد ذكرنا في باب أفعال الحج إلى انقضائها كثيرا من اختلافهم فيما في تركه دم ، وما ليس فيه دم ، وإن كان الترتيب يقتضي ذكره في هذا الموضع ، والأسهل ذكره هنالك .

قال القاضي : فقد قلنا في وجوب هذه العبادة وعلى من تجب ؟ وشروط وجوبها ، ومتى تجب ؟ وهي التي تجري مجرى المقدمات لمعرفة هذه العبادة ، وقلنا بعد ذلك في زمان هذه العبادة ، ومكانها ، ومحظوراتها وما اشتملت عليه أيضا من الأفعال في مكان مكان من أماكنها ، وزمان زمان من أزمنتها الجزئية إلى انقضاء زمانها ، ثم قلنا في أحكام التحلل الواقع في هذه العبادة ، وما يقبل من ذلك الإصلاح بالكفارات ، وما لا يقبل الإصلاح بل يوجب الإعادة ، وقلنا أيضا في حكم الإعادة بحسب موجباتها . وفي هذا الباب يدخل من شرع فيها فأحصر بمرض أو عدو أو غير ذلك ، والذي بقي من أفعال هذه العبادة هو القول في الهدي ، وذلك أن هذا النوع من العبادات هو جزء من هذه العبادة ، وهو مما ينبغي أن يفرد بالنظر فلنقل فيه :

التالي السابق


الخدمات العلمية