الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ الجمع بين الصلاتين ]

المثال الثاني والسبعون : ترك السنة الثابتة الصحيحة الصريحة المحكمة في جمع [ ص: 9 ] التقديم والتأخير بين الصلاتين للعذر ، كحديث أنس : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ، ثم نزل فجمع بينهما } وفي لفظ له : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخر الظهر حتى يدخل وقت العصر ، ثم يجمع بينهما } وهو في الصحيحين ، وكقول معاذ بن جبل : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمع مع العصر فيصليهما جميعا ، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار ، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء ، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب } وهو في السنن والمسند ، وإسناده صحيح ، وعلته واهية ، وكقول ابن عباس : { كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا زاغت الشمس وهو في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب ، وإذا لم تزغ في منزله سار حتى إذا حانت العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر ، وإذا حانت له المغرب في منزله جمع بينه وبين العشاء ، وإذا لم تحن في منزله ركب حتى إذا كان العشاء نزل فجمع بينهما } وهذا متابع لحديث معاذ ، وفي بعض طرق هذا الحديث : { وإذا سافر قبل أن تزول الشمس أخر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر } وكقول ابن عمر وقد أخر المغرب حتى غاب الشفق ثم نزل فجمع بينهما ثم أخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : { كان يفعل ذلك إذا جد به السير } كانت هذه سنن في غاية الصحة والصراحة ، ولا معارض لها ; فردت بأنها أخبار آحاد

، وأوقات الصلاة ثابتة بالتواتر ، كحديث إمامة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم وصلاته به كل صلاة في وقتها ثم قال : { الوقت ما بين هذين } فهذا في أول الأمر بمكة ، وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالسائل في المدينة سواء صلى به كل صلاة في أول وقتها وآخره وقال : { الوقت ما بين هذين } وقال في حديث عبد الله بن عمرو : { وقت صلاة الظهر ما لم تحضر العصر ، ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس ، ووقت صلاة المغرب ما لم يسقط نور الشفق ، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل } وقال : { وقت كل صلاة ما لم يدخل وقت التي تليها } ويكفي للسائل وقد سأله عن المواقيت ثم بينها له بفعله : { الوقت فيما بين هذين } فهذا بيان بالقول والفعل ، وهذه أحاديث محكمة صحيحة صريحة في تفصيل الأوقات مجمع عليها بين الأمة .

وجميعهم احتجوا بها في أوقات الصلاة ، فقدمتم عليها أحاديث مجملة محتملة في الجمع غير صريحة فيه ; لجواز أن يكون المراد بها الجمع في الفعل ، وأن يراد بها الجمع في الوقت ، فكيف يترك الصريح المبين للمجمل المحتمل ؟ وهل هذا إلا ترك للمحكم وأخذ بالمتشابه ، وهو عين ما أنكرتموه في هذه الأمثلة ؟ [ ص: 10 ] فالجواب أن يقال : الجميع حق ; فإنه من عند الله ، وما كان من عند الله فإنه لا يختلف ، فالذي وقت هذه المواقيت وبينها بقوله وفعله هو الذي شرع الجمع بقوله وفعله ; فلا يؤخذ ببعض السنة ويترك بعضها .

والأوقات التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله نوعان بحسب حال أربابها : أوقات السعة والرفاهية ، وأوقات العذر والضرورة . ولكل منها أحكام تخصها ، وكما أن واجبات الصلاة وشروطها تختلف باختلاف القدرة والعجز فهكذا أوقاتها ، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم وقت النائم والذاكر حين يستيقظ ويذكر ، أي وقت كان ، وهذا غير الأوقات الخمسة . وكذلك جعل أوقات المعذورين ثلاثة : وقتين مشتركين ، ووقتا مختصا ; فالوقتان المشتركان لأرباب الأعذار هما أربعة لأرباب الرفاهية ، ولهذا جاءت الأوقات في كتاب الله نوعين خمسة وثلاثة في نحو عشر آيات من القرآن ، فالخمسة لأهل الرفاهية والسعة ، والثلاثة لأرباب الأعذار ، وجاءت السنة بتفصيل ذلك وبيانه وبيان أسبابه ، فتوافقت دلالة القرآن والسنة والاعتبار الصحيح الذي هو مقتضى حكمة الشريعة وما اشتملت عليه من المصالح .

فأحاديث الجمع مع أحاديث الإفراد بمنزلة أحاديث الأعذار والضرورات مع أحاديث الشروط والواجبات ; فالسنة يبين بعضها بعضا ، لا يرد بعضها ببعض ومن تأمل أحاديث الجمع وجدها كلها صريحة في جمع الوقت لا في جمع الفعل ، وعلم أن جمع الفعل أشق وأصعب من الإفراد بكثير ; فإنه ينتظر بالرخصة أن يبقى من وقت الأولى قدر فعلها فقط ، بحيث إذا سلم منها دخل وقت الثانية فأوقع كل واحدة منهما في وقتها ، وهذا أمر في غاية العسر والحرج والمشقة ، وهو مناف لمقصود الجمع ، وألفاظ السنة الصحيحة الصريحة ترده كما تقدم ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية